من فتاوى الإمام الحجة مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى
في صلاة الجمعة
الجواب عن السؤال الأول وهو في موضوع صلاة الجمعة. فأقول والله تعالى الموفق للصواب وسلوك منهج السنة والكتاب: لاشك أن صلاة الجمعة شأنها عظيم وخطرها في الإسلام جسيم. وأن الآية في وجوب السعي إلى ذكر الله تعالى، وكذا الأخبار النبوية نصوص معلومة، ولكن حكمها حكم سائر ما افترضه الله تعالى في القرآن الحكيم من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، مما وردت مطلقات ومجملات وعامات، وبين مجملها وقيد مطلقها وخصص عامها، وأوضح شرائطها وكيفية أدائها على لسان رسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كما قال جل جلاله: ((لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ))، ومن المعلوم المجمع عليه المسلَّم به أنه يقبل البيان للمجملات، والتقييد للمطلقات، والشروط في المشروطات، والتعيين للمحتملات ولو بأخبار الآحاد الصحيحات كما في أوقات الصلوات دخولا وخروجاً وجهة القبلة والطهارة ولزوم النية والتسمية والمضمضة والاستنشاق وأنصباء الزكاة وسقوطها في المال الذي لم يكمل فيه النصاب كالذهب والفضة مثلا مع وجوبها في الأموال بنص القرآن على العموم وغير ذلك مما لايحصر، فكيف إذا ورد البيان بنصوص الكتاب العزيز والسنة المطهرة الصحيحة الصريحة، فما بال هذا النص في الجمعة لايجوز تقييده ولاتبيينه ولاتخصيصه؟ لاشك أن ثمة هوى من البعض وعدم إمعان النظر أو الاغترار من البعض الآخر، إذا تقرر هذا.فأقول: هذا النص الظاهر القرآني بوجوب السعي إلى ذكر الله تعالى وكذا غيره من الأخبار مقيد بالنصوص القرآنية الكثيرة كقوله عز وجل: ((وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:28]، فحرم سبحانه القعود مع الظالمين تحريماً عاماً مطلقاً فلايخص إلا بدليل صحيح واضح، فهنا عمومان يمكن تخصيص كل منهما بالآخر فيرجع إلى(1/356)
الترجيح فآية النهي وغيرها من الآيات الآتية تقتضي الحضر والتحريم والعمل بالحاضر أرجح بالإتفاق والآيات القاضية بالتحريم مع ذلك، والأخبار أكثر وأقوى وأصرح فهي أرجح، أما إذا خاض الخطيب أو الإمام أو غيرهما فيما لايجوز كمدح الظلمة كما لايخلو في الغالب والدعاء لهم وكالجبر والتشبيه أحياناً فالذنب أعظم وأطم. وقد قال تعالى: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ)) [النساء:129] ومفهوم قوله: ((حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)) مقيد بالتوبة للآية الأولى وغيرها أو يكون القعود للتبليغ أو نحوه، هذا والله تعالى يقول في الآية نفسها: ((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) ولم يقل إلى معصية الله تعالى وسبه بنسبة القبائح إليه والكذب عليه والمدح لأعدائه وقد ورد: ((إذا مدح الظالم اهتز عرش الله)) أو كما قال وفي الخبر الصحيح: ((لايحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل)) وفي بعض: أو تنصرف. وأيضاً في الحضور مع الظلمة إظهار المودة لهم والتولي والمعاونة لهم على طغيانهم والركون إليهم، هذا معلوم لاريب فيه، ولذا تراهم يحرصون على حضور جمعهم ويعاقبون على التخلف عنها والله عز وجل يقول: ((لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ(1/357)
الْمُفْلِحُونَ)) آخر آية المجادلة. ويقول تعالى: ((وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)) [المائده:51] الآيات. ويقول تعالى: ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) [المائدة:2]، ويقول جل وعلا: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ)) [هود:113]، والركون: هو الميل اليسير، وقد قال تعالى: ((لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) [البقره:124]، ولو أوجب الحضور معهم مع مافيه من الميل إليهم وتقوية سلطانهم لكان من العهد.
وأما السنة فكثير كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لايؤمنكم ذو خزبة في دينه)) . أخرجه في أمالي أحمد بن عيسى عليهما السلام إلى أمير المؤمنين عليه السلام والهادي إلى الحق والمؤيد بالله وأبو طالب وأحمد بن سليمان عليهم السلام وهو في الجامع الكافي، والخزبة: شبه الخدش وهو النقص. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لايؤمن مؤمناً فاجر ولايصل مؤمن خلف فاجر)) أخرجه في أمالي الإمام أحمد بن عيسى عليهما السلام وهو في الجامع الكافي وأصول الأحكام .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لايؤمن فاجر مؤمناً إلا أن يخاف سيفه أو سوطه)) . أخرجه المؤيد بالله وقال: في ذلك تصريح بالنهي عن الصلاة خلف الفاجر والنهي يقتضي فساد المنهي عنه على أنه إجماع أهل البيت عليهم السلام ولا أعلم فيه منهم خلافاً. انتهى كلامه عليه السلام.(1/358)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لايؤمن فاجر مؤمناً)) رواه ابن حجر في بلوغ المرام. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن سركم أن تقبل صلواتكم فقدموا خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم)) رواه الحاكم، وهذا هو إجماع أهل البيت عليهم السلام رواه أئمتهم الثقات الأثبات، فلايضر خلاف بعض المتأخرين لسبق إجماع سلفهم، وإن حملوا على السلامة لعدم تعمدهم لمخالفة الإجماع، وللشبهة.
ومن نصوص أعلامهم قول إمام الأئمة زيد بن علي عليهما السلام: ((لاتصل خلف الحرورية (الخوارج) ولا خلف المرجئة ولا القدرية ولامن نصب لآل محمد حرباً )) . وقوله عليه السلام: ((ليس يجب عليك السعي إلى أئمة الفسقة إنما يجب عليك السعي إلى أئمة الهدى)) .
وقال الإمام المؤيد بالله عليه السلام: فإن قيل من أين قلتم إن السلطان الظالم لاتصح معه الجمعة؟ قال: قيل له: لقوله تعالى: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)) [هود:113] ولاركون في باب الدين أوكد من أن تعلق بهم صلوة الجمعة، وروى محمد بن منصور بإسناده إلى إبراهيم بن عبدالله بن الحسن أنه سئل عن الجمعة هل تجوز مع الإمام الجائر؟ فقال: إن علي بن الحسين وكان سيد أهل البيت كان لايعتد بها معهم وهو مذهب جميع أهل البيت فيما عرفته، ومذهبنا أن إجماعهم حجة. انتهى كلامه عليه السلام.وقال الإمام القاسم بن محمد عليهما السلام في الجزء الثاني من الاعتصام: ولايقتدي بأئمة الجور أحد من المؤمنين ولايكونون لهم أئمة لقوله تعالى: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ولايؤمن فاجر مؤمناً..)) إلى آخره. ومن المعلوم أنه لايجوز الإنكار على من تابع أحداً من أئمة الهدى فكيف من تابع إجماعهم، وللمخالفين شبه واهية وردودات غير واضحة منها التمسك بآية النداء، وقد سبق القول بما فيه الكفاية لمن أنصف.(1/359)
ومنها: حديث: ((وله إمام عادل أو جائر)) وقد ضعفت هذه الزيادة وتأولها الأئمة بأن المعنى جائر في الباطن، وفائدته: أن على المسلمين أن يعملوا بظاهر العدالة وليس عليهم أن يتكلفوا معرفة الباطن، وأنه إن كان الإمام غير عادل في الباطن فلاحرج عليهم مهما كان ظاهره العدالة وأن العصمة غير شرط في الأئمة، وفيه رد على من اشترطها كالإمامية، وهذه فوائد عظيمة وتأوله الإمام القاسم عليه السلام في الاعتصام بتأويل حسن خلاصته: أن اللام تفيد الاختصاص، فالجائر ليس بإمام للمؤمن، فليس له بإمام وإنما يعاقب من ائتم به، فلايدخل المؤمن في الوعيد بتركها مع الجائر.
قلت: وأيضاً في الخبر: ((من تركها استخفافاً وجحوداً)). وفي بعض: ((من غير عذر)). فتاركها مع الإمام الجائر ليس مستخفاً بها ولاجاحداً لحقها مع أن هذا الخبر لايقوى على معارضة الأدلة من الآيات والأخبار المفيدة للمنع، وإجماع أهل البيت ومن شبههم حضور بعض السلف لجمع الظلمة ولاحجة في ذلك لأنه للتقية وخشية السيف والسوط أو لخشية افتراق كلمة المسلمين وغلبة أهل الكفر. وقد تخلف أمير المؤمنين عليه السلام ستة أشهر كما رواه البخاري ومسلم وغيرهما ثم طلب مصالحة أبي بكر كما في روايتهما وفي روايتيهما أن ذلك لانصراف وجوه الناس بعد موت فاطمة عليها السلام، وعندنا أن ذلك لإشفاقه على الإسلام كما قال: ((فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الإسلام رجعت فخشيت أن أرى في الإسلام ثلماً هو أعظم علي من فوت ولايتكم هذه)) . أو كما قال. وقد أكثر المخالفون في ذلك الإرهاب والتهويل، والمعتمد الدليل والله سبحانه الهادي إلى خير سبيل، وهذا الشرط وهو أن لايقيمها الظالم أو من ينتمي إليه وأن لايقترن بها معصية هو الذي وقع الكلام فيه، وبقية الشروط ماثبت بدليل واضح فهو صحيح ومالا فلا، والتفصيل يوجب التطويل ولايسع الحال.(1/360)