كتاب الفلق المنير بالبرهان
في الرد لما أورده ابن الأمير على حقيقة الإيمان
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
[تقريظ القاضي العلامة محمد بن يحيى مرغم رضي اللّه عنه]
ومما قاله القاضي العلامة محمد بن يحيى مرغم ـ رضي اللّه عنه ـ لَمَّا اطَّلَعَ على الفلق المنير:
هذا هو الحقُّ وهو المذهبُ العالي .... عن مُنْزِلِ الذِّكْرِ لا يَخفى على التالي
وعن إمامِ جميعِ المرسلينَ كما .... أتت به مسنداتٌ خير أقوال
عنه وعن آلهِ الأَخيارِ قاطبةً .... دع من يشذُّ إلى أَقوال ضُّلالِ
لله دَرُّ مُجِيبٍ صاغَ عَسْجَدَهُ .... في قالب الحق إرغاماً لجهال
وكيفَ وهو مجدُالدِّينِ سَيِّدُنا .... وعمدةُ الآلِ في حلٍّ وترحالِ
جازاهُ رَبُّ البرايا عن حمايتِهِ .... للدِّينِ خيرَ مقامٍ باذخٍ عالِ
انتهى وصلى اللّه وسلم على محمد وآله.(1/31)
بسم اللّه الرحمن الرحيم
وصلى اللّه وسلم على محمد وآله
[مقدمة الإمام مجدالدين المؤيدي ـ أيده الله تعالى ـ ، والباعث له على التأليف]
قال المولى العلامة لسان العترة الطاهرة ضياء الإسلام والدين مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي ـ أجزل اللّه ثوابه، وضاعف أجره ـ مجيباً على ابن الأمير فيما حَرَّرَهُ على حاشية الغاية:
الحمد لله، اعلم أنه قد كثر التحامل من أهل هذه التعاليق في الإصدار والإيراد والتجافي عن منهاج السداد كأنهم لَم يَقْرَعْ سَمْعَهُم قولُهُ عزَّ وجلَّ: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)) [آل عمران:71] ولِمَا أخذ اللّه تعالى من البيان، وأمر به في محكم القرآن بمثل قوله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)) [النساء:135] ، ((وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)) [آل عمران: 187] تعين الإيضاح لحجة اللّه تعالى، والإفصاح بكلمة اللّه تعالى، وقد قرَّرَ أئمتنا عليهم السلام الكلام في مثل هذا المقام، بما يشفي الأُوام، ويبري السقام، وأبانوا حججاً مشرقة المنار، متجلية الشموس والأقمار، وهم حماة الحق، وقادة الخلق، ولكن لا يحسن ترك التعرض لِمَا زخرفه الواضعون، لاسيما في هذا الأمر الخطير، وفي الإستدلال بآية التطهير، ولا يمنع كون المورد لها السيد العلامة الكبير محمد بن اسماعيل الأمير، فالحسنة من الناس حسنة، وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة من الناس سيئة، وهي من بيت النبوة أشين، لوجوب حلِّ الشبهة، فقد ينقدح على من لَم يكن له مسكة،
ويطمئن إليها من له غرض .... في مسلك الغي أو في قلبه مرض(1/32)
فأمَّا من كَرَعَ من فرات التحقيق، ولاحظته عنايةُ التسديد والتوفيق، فليس له عليها تعريج، ولا يتم عليه التمويه والترويج، وعليك أيها الأخ المطلع النظر بعين الإنصاف، وطرح الهوى والإعتساف، فهذه طريقة مَنْ ثَبَّتَهُ اللّه تعالى على المنهج القويم، ((أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [الملك:22] ولنتكلم بما يحتمله الحال من الإختصار ونتجنب ما لا طائل تحته من اللغو والإكثار، فأقول، وبمادة ربي أصول:
[اعتراض ابن الأمير على صاحب الغاية في تعريف المؤمن، والجواب عليه]
قوله[أي ابن الأمير]: الأَوْلَى على رأيه [أي صاحب الغاية] أنه [أي المؤمن]: فاعل الواجبات؛ لأنَّ المسنونَ طاعةٌ، ولا يُعَدُّ تاركه غير مؤمن عند المصنف.. إلخ ما في صفح 248
الجواب: المراد بالطاعات الواجبات بقرينة مقابلتها بالمقبحات.
قوله: ويخرج عن الحدِّ مَن ارتكب المقبحات طول عمره، ثُّمَّ تاب وعاجله الموت.. إلخ ما في ذلك الصفح.
الجواب: هذه حالة نادرة فَرْضية، لا يليق لذي قَدَمٍ أن يجعلها طريقاً إلى النقض، على أنَّه قد أتى بالواجب عليه، وانتهى عن القبيح، وهو المراد.
وقوله: هذا الدليل الذي استدل به المصنف (1)[1]) لا يساوي الدَّعوى؛ لأنَّه ليس فيه ذكر اجتناب المقبحات، ولا في الدعوى: وجل القلب، وزيادة الإيمان عند تلاوة الآيات، فلم يُساوِ الدَّليلُ الدَّعوى... إلخ ما في ذلك الصفح.
__________
(1) ـ وهو قوله تعالى ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4))[الأنفال](1/33)
الجواب: يقال: وجل القلب، وزيادة الإيمان يشملهما التصديق، وأمَّا تركُ المقبحات فمن المعلوم أنَّ مَنْ حصلت فيه هذه الأوصاف تركَ المقبحاتِ، على أنَّها قد دلت الآيةُ دلالةً قاطعةً أنَّ الإيمانَ اعتقادٌ وعملٌ، فبطل القول بأنَّه التصديق لا غير، وإذا بَطَلَ ذلك ثبتت الدعوى، إذ لا قائل من الأُمة أنَّ الإيمان: التصديقُ والإتيانُ بهذه الأوصاف المذكورة في الآية فقط، وهذا واضح،
ولكنها الأهواء عمت فأعمت(1)[2]).
[ادِّعاء ابن الأمير على أنَّ المغفرة لا تكون إلاَّ للكبائر، والجواب عليه]
قوله: فإنه لامغفرة إلا لذنب كبير.. الخ.
الجواب: يقال فماتصنع بقوله عز وجل: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)) [الفتح:2]، ((قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا)) [الأعراف:23].
[ادِّعاء ابن الأمير على أنَّ قوله تعالى {إنَّما المؤمنون الذين إذا ذُكِرَ الله وجِلَت قلوبهم...}، لا يدل على دخول الأعمال في الإيمان، والجواب عليه].
قوله: ولك أن تقول: الآية لاتدل على دخول الأعمال في الإيمان.. الخ ما في صفح 249.
الجواب: أنَّى لك ذلك؟ إنما هذا الشرط ثابت عند تلاوة الآيات، ومعلوم أنه عند سماعها يزداد بها وضوح اليقين ورسوخ الثبات، وهذه العلاوة تدل على زيادة التعامي وفرط الغباوة، فحصول إيمان غير حقٍّ محال ((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ)) [يونس:32]، وبما ذكرنا من معنى الوجل يتبين تلاشي كلامه كله ونقض مرامه وحله، ويتضح أن الاستدلال في غاية الاستقامة، ونهاية المتانة ولكن:
ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ .... يجدْ مُرَّاً به الماءَ الزُّلالا
__________
(1) ـ صدره: وَنَهْجُ سبيلي واضحٌ لِمَنِ اهتدى.(1/34)
[ادِّعاء ابن الأمير أنَّ الفاسق من أهل البشارات، والجواب عليه، وتفسير قوله تعالى((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء))]
قوله: لأنَّ سامعها (1)[3]) يُجَوِّزُ أنَّها لِمَنْ كان في أَعلى رُتَبِ الإيمان... إلخ ما في ذلك الصفح.
الجواب: أما مع تصديقه بصريح الآيات فلا، إذ البشارة عامة لكل المؤمنين، وأما قوله عز وجل: ((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) [النساء:116]، فإن من يثبته اللّه تعالى على منهاج الإنصاف، ويجنبه ركوب كاهل الاعتساف، لا يرد المبين إلى المحتمل، والتقييد للآية بالتوبة غنيٌّ عن إبطاله وإبطال غيره، ولو جرى على سَنَنِ أَهلِه، لأَخَذَ تفسيرها من محله، بل المراد بقوله عزَّ وجلَّ: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء))، أهل الصغائر، ببيان الآيات الموضحات للمؤاخذة على الكبائر؛ لأنَّ الآيةَ أفادت أنَّ ماعدا الشركَ مغفورٌ لمن يشاء، والمشيئةُ مُجْمَلَةٌ ليست مقيدة بالتوبة، إذ هي مكفرة للشرك وغيره.(1/35)