وأما أن المدار الظن فغير مسلم، بل تعبدنا بخبر العدل في ذلك كما أفادته الأدلة القرآنية والأخبار النبوية مع أنه لو كان المدار الظن للزم قبول أخبار كافر التصريح وفاسقه المتحرجين عن الكذب للأنفة منه والمروءة، فإن منهم من يؤثر بذل النفس على الدخول في نقيصة أو رذيلة وأخبارهما مردودة بالإجماع، ومن أين لهم أن المدار الظن والله سبحانه قد نهى عن اتباعه ولم يذكره وأهله إلا بالذم: ((إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) [يونس:36]، ((إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ)) [الأنعام:116]، ((وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) [البقره:169] ولاموجب للتخصيص؟ فإن الأدلة القائمة على قبول الآحادي في العمليات من بعث الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لتبليغ الشرعيات لم تدل تصريحاً ولاتلويحاً على اعتماد الظن في ورد ولاصدر، لأنه وإن كان يلزم عندها الظن في الأغلب فليس بمعتبر، واللازم غير الملزوم كما يعلمه أرباب الذوق والنظر:
والشمس إن خفيت على ذي مقلة .... وسط النهار فذاك محصول العما
بل ورد التعبد من غير ملاحظة الظن ولاعدمه وإنما يخصص بهذا نحو قوله تعالى: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) [الإسراء:36] لكونه لم يعتبر فيه العلم بل طريق شرعية لاعلمية ولاظنية أوصلت إليها الأدلة القطعية.(1/26)


هذا وأما الدلالة العقلية على قبول المظنون، فإنما هو فيما لايترتب على الأخذ به خطر نحو ما مثلوا به من الإخبار بالطعام المسموم مما يرجح العقل قبوله ولو كان المخبر صبياً أو كافراً صريحاً لعظم الإقدام على تجويز كونه صحيحاً، فأما ماينبني عليه أعظم مواقع الشرع فقد قامت الأدلة القاطعة على المنع، وقد حققت ماعندي في هذا الباب في فصل الخطاب شرح خبر العرض على الكتاب، نفع اللّه به.
[جواب المؤلف عن قبول الخبر الآحادي في الجرح والتعديل]
هذا وأما ما أشرتم إليه من قبول الخبر الآحادي في الجرح والتعديل، فاعلم أيدنا اللّه وإياك بتأييده وأمدنا وإياك بلطفه وتسديده، أن هذا الأصل لايستقيم إلا بإحكام أساس وهو أصل في الموالاة والمعاداة والتكفير والتفسيق، فكم من خابط في المهامه هائم في مهاوى تلك الطريق ضال عن الحق والتحقيق، ولم يزل يتردد البحث هذا في النفس ويكثر النظر فيه حال القراءة والدرس لأن كلمات المؤلفين فيه تضطرب وتتناقض وأقاويلهم عنده تختلف وتتعارض.(1/27)


وسبب الانضراب أنه وقع خلط مسألتين كل واحدة منهما مباينة للأخرى إحداهما علمية والأخرى عملية بلا امتراء، الأولى منهما: الحكم على المعصية بكونها تقتضي الكفر أو الفسق وهذه علمية بلا كلام، والأخرى: كون هذا الشخص مثلا ارتكب مايفسق به أو يكفر وهذه عملية بلا ريب لأن المقصود المعاملة ظاهراً فتقبل فيها الآحاد ونحوها، وترى كثيراً من المؤلفين يخبط في هذا خبطاً عظيماً، ويخلط الكلام خلطاً جسيماً، ويحكم على إحداهما لما اشتبه عليه بحكم الثانية، وكم تجدهم في كثير من المقامات عند رواية صدور بعض الواقعات المتبين حكمها لاسيما في الخوض على أحداث الصحابة يقولون هذا يقتضي التكفير والتفسيق وهما لايجوزان إلا بقاطع ولايقبل فيهما الآحاد أو نحن من إيمانهم على يقين فلاننتقل عنه إلا بيقين أو ما أشبه هذه العبارة، ولو نظر لعلم أن جميع أبواب الموالاة والمعاداة مبنية على الظاهر وأنه لاسبيل إلى القطع على مغيب أحد غير المعصومين أو من أخبروا بحاله، ولو كان الأمر على ذلك لكان يلزم أن لايقبل فيمن علم كفره أنه أسلم إلا بقاطع.
ولقد كثر لعمر اللّه من ذلك العجب ولا عجب إلا لصدوره من بعض أهل الأنظار المليين بالإيراد والإصدار، فأما من لم يعض بضرس قاطع ولاضرب بسهم نافع فالحال فيه كما قال:
وابن اللبون إذا مالز في قرن .... لم يستطع صولة البزل القناعيس
وقال آخر:
من تزيا بغير ماهو فيه .... فضحته شواهد الامتحان
وجرى في العلوم جري سكيت .... خَلَّفَتْهُ الجياد يوم الرهان
وحسبك بقول الحكيم العليم: ((أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا
عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [الملك:22]، ((هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) [الزمر:9].(1/28)


[كلام الإمام عزالدين بن الحسن (ع) في قبول الخبر الآحادي في الجرح والتعديل]
نعم وقد وفقت على تحقيق في هذا المقام يستشفى به من الأُوَام لوالدنا إمام المحققين وعلم أعلام المدققين الهادي إلى الحق المبين أبي الحسن عز الدين بن الحسن بن أمير المؤمنين عليهم السلام. قال في المعراج عند قوله في المنهاج: وإنما يعرف الكفر بالشرع وذلك لأنه أمر غيبي لايعلمه إلا اللّه أو من علمه بتعليم لسان نبيئه، وكذلك لايعلم تفاوت المعاصي في كونها كفراً أو كون بعضها أخف عقاباً من البعض إلا من جهة الشرع، وأدلة الشرع نوعان أحدهما ظني وهذا النوع لايؤخذ به في الإكفار ولا التفسيق لأن الإجماع منعقد على أن الأدلة المستعملة في التكفير والتفسيق لاتكون إلا قاطعة لأن الإسلام مقطوع به فلايجوز إبطاله بدليل مظنون.
إلى أن قال: لايقال: أليس من قامت الشهادة على كفره أو أقام في دار الكفر غيرمميز لنفسه بعلامة إسلامية يحكم بكفره، ويعتقد كونه كافراً، ولايفيد ذلك إلا الظن؟
لأنا نقول: ليس الشهادة المذكورة وعدم التمييز هما الطريق إلى كفره في نفس الأمر بل في ظاهر الشرع، والتحقيق أنه يجوز إجراء أحكام الكفار بما لايفيد إلا الظن من الأدلة كأخبار الآحاد ومن الطرق كالشهادة، وقد ذكره الإمام المنصور بالله عليه السلام واختاره.(1/29)


قال الفقيه حميد: وهو مذهب المحصلين لأنه يجوز قتل المرتد بشهادة الشهود مع عدم حصول العلم وقبلت في ذلك أخبار في عصره صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولهذا هم بغزو قوم أخبره الوليد بن عقبة بكفرهم حتى نزل قوله تعالى: ((إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)) [الحجرات:6] فامتنع صلى اللّه عليه وآله وسلم لأجل فسقه لا لأجل كونه واحداً. انتهى كلامه عليه رضوان اللّه وسلامه، وهو شاف واف مشتمل على غرر يجتنى من أكمامه يانع الثمر، ويلتقط من معانيه نفائس الدرر.
هذا والله أسأل وبجلاله أتوسل أن يصلي على محمد وآله، وأن يفيض علينا وعليكم أنوار الهداية، ويفرغ لنا ولكم التوفيق في البداية والنهاية.
قال في الأم
تم نقلا عن خطه رضي اللّه عنه قال فيه: حرر غرة شوال سنة 1366 هـ كتب المفتقر إلى اللّه مجد الدين بن محمد المؤيدي عفا اللّه تعالى عنهما وغفر لهما وللمؤمنين، وصلى اللّه على محمد وآله ولاحول ولاقوة إلا بالله.(1/30)

6 / 83
ع
En
A+
A-