قلت: يقال: لو كان من هذا شيء لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة فقد كان في أمس الحاجة إلى ذلك وقد كادت الفتنة أن تثور، ولم يحتج أبو بكر إلا بالقرب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما ذلك مأثور، ولهذا قال الوصي عليه السلام: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة، ولو كان من هذا شيء ماتأخر أمير المؤمنين عليه السلام وكافة بني هاشم وأعلام السابقين عن بيعتهم يوم السقيفة وهو مع الحق والقرآن والحق والقرآن معه، كما هو معلوم بالنص النبوي المتفق عليه، لو كان شيء ما تأخر لحظة واحدة كيف وقد اعتزلهم ستة أشهر برواية البخاري ومسلم، ولكنها لم تكن قد لفقت مثل هذه التراهات ودست في الصحاح، وهذان الحديثان الآحاديان المرويان عن عائشة لايقاومان عشر معشار الوارد في أمير المؤمنين عليه السلام لارواية ولادلالة كخبر الغدير المتواتر الذي جمع فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الحجيج في حجة الوداع وخطبهم فيه وبلغهم على رؤوس الأشهاد وقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله )) بعد أن قال: ((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى )) فهل بعد هذا البيان من بيان، ولهذا قال المقبلي: إنه لا أوضح منه دلالة ورواية وقال: فإن كان هذا معلوماً وإلا فما في الدنيا معلوم. وقال الذهبي على شدة انحرافه ونصبه: بهرتني طرقه فقطعت به.
وستأتي روايته للمؤلف في ذكر فضل أهل البيت صفح 400 وهو أوضح من فلق النهار.
وليس يصح في الأذهان شيءٌ…إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ(1/271)
وكخبر المنزلة الذي قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه: (( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبيء بعدي )) . وقد استوفينا طرق روايته وغيره، وأوضحت _أنه صلى الله عليه وآله وسلم قاله لعلي عليه السلام في اثني عشر مقاماً لا في غزوة تبوك فحسب_ في لوامع الأنوار وقد رواه جميع أهل الصحاح والسنن وغيرهم، واعترف ابن حجر بدلالته على الإمامة كما تقوله الشيعة، قال: لولا أن هارون مات قبل موسى عليهما السلام، وقد أجيب عليه بما فيه كفاية، وأن ذلك لايمت إلى الدلالة بصلة إذ الفرض بيان الاستحقاق لجميع منازله من موسى لا أن يكون كهارون من كل وجه، ومن منازله أنه أحق بالأمر وأفضل الأمة إلى غير ذلك مما أفاده عموم المنزلة لدلالة الاستثناء، ولأنها جنس مضاف وهي من صيغ العموم كما قرر في الأصول إلى غير ذلك من الأخبار النبوية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وهو وليكم من بعدي )) وغير ذلك من سائر الدلالات والإشارات مما لايحاط به كثرة كتاباً وسنة ولعمر الله إنها لاتخفى على أمثال هؤلاء العلماء، ولكن كما قيل:
نعرف الحق ثم نعرض عنه… ونراه ونحن عنه نميل(1/272)
لهوى النفوس سريرة لاتعلم، فالحكم لله العلي الكبير، نعم المولى ونعم النصير. وهذان الحديثان مما وضعا معارضة للخبر المعلوم المروي في الصحيحين وغيرهما من طلبه صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا من بعده، فقال عمر: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله. فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قوموا عني )) . وكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ماحال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ثم بكى ابن عباس حتى بل دمعه الحصى. هذه رواية البخاري ومسلم، ولقد فهم عمر مراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من التأكيد بخلافة أخيه كما صرح به عمر في رواية صحيحة ولولا أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد بلغهم في يوم الغدير وغيره لما استطاع عمر ولاغيره أن يمنعوه من تبليغ ما أمره الله به، ومما يدلك على وضع هذين الخبرين مافيهما من أنه هم أن يرسل إلى أبي بكر وابنه فيعهد إليهما، فكيف تكون حجة الله على الخلق في خلافته على جهة المسارة لأبي بكر وابنه فأين هذا مما بَلَّغَه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على رؤوس الأشهاد في خبر الغدير؟! وغيره هذا معلوم لايخفى على من له أدنى مسكة من التمييز.
والحق أبلج ماتخيل سبيله .... والحق يعرفه ذووا الألباب(1/273)
[الكلام في وصاية أمير المؤمنين عليه السلام]
من صفح (123) ج (2) قال حسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرثيه:
مابال عينك لاتنام كأنها .... كحلت أماقيها بكحل الأرمد
إلى أن قال:
لو يعلموا أن الوصي من بعده .... أوصى ونطفته قسيمة أحمد
نوراً تنقل من خلاصة هاشم .... إذ بايعوه هدوا لدين محمد
نوراً أضاء على البرية كلها .... من يهد للنور المبارك يهتد
قلت: في هذا تصريح بالوصاية والأخبار فيها والآثار أشهر من فلق النهار، قد امتلأت بها الأسفار وحفلت بها أشعار المهاجرين والأنصار. وفي هذه الأبيات أيضاً إشارة إلى الخبر النبوي في النور ومن ألفاظه الشريفة: ((إن الله أنزل قطعة من نور فأسكنها في صلب آدم فساقها حتى قسمها نصفين فجعل جزءاً في صلب عبدالله وجزءاً في صلب أبي طالب فأخرجني نبياً وأخرج علياً وصياً )) أخرجه الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة في الشافي، وأخرج نحوه من مسند أحمد بن حنبل ومن الفردوس والحاكم الجشمي في السفينة وغيرهم، وقد استوفينا الكلام عليه في لوامع الأنوار. نعم وفي هذا الشعر جزم المضارع بلو كما في قول الشاعر:
لو يشأْ طار بها ذو ميعة… لاحق الآطال نهد ذو خصل(1/274)
[بحث في إثبات أن القرآن محدث مخلوق]
من صفح (212) ج (2) قوله: ولقد أحسن صاحب البردة حيث يقول في وصف آيات القرآن العظيم، وفي تحقيق معنى ماقدمناه أيضاً:
آيات حق من الرحمن محدثة .... قديمة صفة الموصوف بالقدم
.. الخ
قلت: اعلم أن القول بأن القرآن صفة لله تعالى ذاتية، وأن تلك الصفة وست صفات أيضاً قديمات مع الله سبحانه وتعالى وهن: العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والإرادة، وأن الذات الثامنة هو قول الأشعرية ومن وافقهم من المحدثين وغيرهم، وهو صريح في تعدد القدماء مع الله تعالى، وهو يقتضي تعدد الآلهة للاشتراك في الصفة الذاتية إذ المشاركة في صفة ذاتية توجب المشاركة في جميع الصفات الذاتية والاشتراك في الذات ضرورة، ألا ترى أن التحيز مثلا لما كان صفة ذاتية للجسم استحال أن يعقل جسم غير متحيز أو غير شاغل للمحل إلى غير ذلك من الصفات الذاتية، والإلهية لله تعالى صفة ذاتية قطعاً، فيستحيل أن يوجد قديم غير إلاه. ولكن هؤلاء لما لم يكن لهم مسكة في علم التوحيد والأصول ولا تعويل على دلائل العقول، التي هي الطريق إلى إثبات المنقول، لايبالون بماوقعوا فيه من الارتباك والتورط في حبائل الإشراك، هذا وقد قال أمير المؤمنين وإمام الموحدين، وصي الرسول الأمين صلى الله عليه وآله الطاهرين: وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله، ولم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً.. إلى آخره. فصفاته جل وعلا إنما هي تعبير عن ذاته المقدس عن الأشباه بمعنى: أنه عالم بذاته، قادر بذاته، وليس له عز وجل معنى غيره، هذا هو قول علماء التوحيد والعدل، وأما غيرهم فقد انقسموا طوائف: فمنهم من أثبت معاني كما هي ثابتة في المخلوق، _أعني أن الله تعالى عالم بعلم غير ذاته، وقادر بقدرة غير ذاته إلى آخره _، ثم تخبطوا بعد ذلك، فمنهم: من جعلها معاني قديمة ولم يبالوا بلزوم تعدد الآلهة وهم هؤلاء، ومنهم: من أثبتها محدثة ولم يبالوا بلزوم حدوث ذي الجلال وكل ذلك للجهل المردي، نعوذ بالله منه، ومع هذا فقد قاموا بمنازعة العلماء الذين قرن الله شهادتهم بشهادته حيث قال: ((شَهِدَاللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ(1/275)