وأما ماحكاه ابن الإمام عليه السلام في الغاية من أن التخصيص أهون من النسخ لكون التخصيص رفعاً للبعض والنسخ رفعاً للكل هذا معناه، فذلك لايجدي لأنهما مهما كانا متواردين على ظني فلاتأثير للقوة وعدمها لجواز نسخ الظني للظني، ألا ترى أنه يصح أن ينسخ خبر واحد حكما مظنونا ويصح أن ينسخ بمثله أحكام كثيرة مالم تكن قطعية المتون، وكذا التخصيص فإنه يخصص بخبر واحد فرد من أفراد العموم ويخصص بمثله وإن أخرج أكثر مدلولاته مع كون الأول أهون، فتبين لك أنه لاحكم للأهون إذا لم يخرجا عن دائرة الظن، ولنرجع إلى المقصود وهذا عارض لايخلو إن شاء اللّه تعالى عن فائدة.
فنقول: قد ظهر لك إن كنت ممن ألقى السمع وهو شهيد مؤدى خبر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ومراد الأئمة صلوات اللّه عليهم في عرضهم لما ورد عن جدهم وأن هجيراهم ومايحومون حوله رد ماكذب على اللّه ورسوله من مفتريات المشبهة والجبرية والحشوية والمرجئة وغيرهم من مردة البرية، واتضح لك ماقرره الإمام في هذه الأقسام التي لايخرج عن أحدها ماورد عن سيد الأنام وما أبرزه في ذلك من الأدلة على مايؤخذ منها ومالايؤخذ، وأن الكتاب والسنة متحالفان لايتخالفان، وأزاح ذلك كله في هذه الألفاظ القصيرة المتضمنة للمعاني البالغة الكثيرة.(1/21)
وهكذا كلام الإمام في كل مقام، ولله القاضي العلامة صارم الإسلام وخاتم الأعلام إبراهيم بن عبداللّه الغالبي رضي اللّه عنه حيث يقول في وصف كلام للإمام: فلايبرح الناظر مستخرجاً للدر الحسان إلى أن ينتهي إلى مالايخطر على الأسماع والأذهان في كلام طويل. فهذه هي البلاغة والإيجاز التي لايشق لها غبار ولايلحق بها آثار، وكم من غوامض وعَويصات صيرها مشرقة البيان مؤنقة البرهان، وكم من حجة أقامها ومحجة أوضح أعلامها، ولاغرو فإنها نابعة من عباب العلوم ولباب المنطوق والمفهوم الذي اغترفت من إفاضته علماء الأمة، وارتشفت من فضالته أعلام الأئمة، وماذا يقال في كلام عليه مسحة من العلم الرباني وجذوة من الكلام النبوي.
كيف لا وصاحبه الإمام القائم بحجة اللّه على الأنام والمجدد لدين اللّه إذ أشرف على الانهدام، وكذلك أهل بيت النبوة لم يزل اللّه تعالى يقيم للأمة في كل قرن منهم من يكشف الغمة ويجلو غياهب الظلمة، ولله السيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير حيث يقول:
كفاني علم أهل البيت .... معقولا ومنقولا
فأما غير ماقالوا .... فلن أرضى به قولا
وحيث يقول:
مع أنني لا أرتضي .... إلا مقالات الفواطم
لاسيما علامتي .... ساداتنا يحيى وقاسم(1/22)
فهل يرجو ممن سواهم التحقيق أم يطلب ممن عداهم التدقيق إلا من سلب الهداية والتوفيق، فالله أسأل وبجلاله أتوسل أن يصلي على رسوله وآل رسوله، وأن يوفقنا لاتباع سبيله، ويعصمنا عن مخالفة قوله في محكم تنزيله ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)) وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله.
قال في الأم: كتب المفتقر إلى اللّه سبحانه المستمد لصالح الدعاء من كافة إخوانه مجد الدين بن محمد بن منصور اليحيوي المؤيدي عفا اللّه تعالى عنهم وكان تحريره بهجرة مولانا ووالدنا إمام اليمن محيي الفرائض والسنن الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم أزكى الصلاة والتسليم، وفرغ من تأليفه يوم الإثنين لعله 9 شهر ربيع آخر سنة (1358 هـ) ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.(1/23)
كتاب إيضاح الدلالة في تحقيق أحكام العدالة
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
[المقدمة]
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد. فإنه ورد سؤال كريم أورده بعض الإخوان الأكرمين كثر اللّه تعالى عددهم ويسر مددهم وطلب بيان ماهو المختار في تلك المسائل، وإيضاح ماعليه من الدلائل، وقد اكتفينا برسم الجواب فمنه يتضح السؤال وينحل إن شاء اللّه تعالى الإشكال وهو هذان وأرجو اللّه أن ينفع به، ويجعله من الأعمال المقبولة والآثار المكتوبة، إنه على مايشاء قدير.
الجواب والله تعالى ولي التوفيق إلى أقوم طريق: أن هذه المسائل التي أُوردت جليلة الخطر، عظيمة الموقع والأثر، من أجل معالم الأصول، وأعظم مسالك المنقول، التي يجب فيها إمعان النظر، وقد كثر فيها الخلاف، وقل عندها الائتلاف، وعلى الباحث لدينه الجاهد في تحصيله وتحصينه أن يعدل إلى جانب الدليل، ولايميل مع القال والقيل، ولاتفزعه التهاويل، ولا تروعه الأقاويل، فالحق وأهله قليل، وأي قليل، إذا تقرر هذا.(1/24)
[الأقوال في مسألة العدالة عند علماء الأصول واختيار المؤلف]
فاعلم وفقنا اللّه تعالى وإياك أن علماء الأصول في مسألة العدالة واعتبار سلب الأهلية أو مظنة التهمة بين قائلين كما بين في مواضعه، والذي ترجح وندين اللّه تعالى به بعد إبلاغ الوسع واستفراغ الطاقة ماذهب إليه قدماء أئمتنا وطائفة من المتأخريين منهم عليهم السلام ومن وافقهم، وهو الأول: أن شرط قبول أخبار الآحاد العدالة تصريحاً، وأنه لايجوز الوثوق ولا الركون في الدين إلا على أهل الثقة والضبط من المحقين، والأدلة على ذلك كثيرة شهيرة ساطعة منيرة منها قوله عز وجل: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ)) وهو عام لكل ركون وأي ظلم.
وقوله عز وجل: ((إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا))، ولم يفصل، ونحو قول صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه وآله فيما رواه من أئمتنا الإمام أبو طالب عليه السلام: ((العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم عنه)) وغير ذلك كثير جم غفير وأشف ماتمسك به أهل القول الآخر دعوى الإجماع وكون مدار القبول حصول الظن، ونقول: أما دعوى الإجماع، فمن الحكايات الفارغة التي لايعتمد عليها الناظر النقاد، ولاتنفق عند أرباب البحث والارتياد، وهي من رواية الآحاد وإن كان قد نقلها بعض ذوي الإصدار والإيراد، والمسألة أصولية لايعتمد فيها إلا الدلالة القطعية، وكيف يخفى الإجماع على نجوم الهداية وشموس الدراية من أقطاب حملة الكتاب.(1/25)