قلنا: ذلك ملتزم وهو مذهب الإمام أبي طالب الناطق بالحق والإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى عليهم السلام وغيرهما، وقد قلنا به جميعاً في العلمي بلا ارتياب كلما ابدوه من الفوارق لايثبت إلا بعد قيام الحجة على ما أصلوه في هذا الباب ولله الإمام الناصر لدين اللّه إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عز الدين بن علي بن الحسين بن الإمام عز الدين بن الحسن عليهم السلام حيث يقول في الروض الحافل عند الكلام على الفرق بين التخصيص والنسخ: ودلالة العام على أفراده ظنية عند الأكثر وإن كان متنه مقطوعاً به والخاص قد يكون بالعكس فتعادلا، وهذا الإيراد وارد مع القول بأن دلالة العام ظاهرة، وأما إذا لم نقل به وهو الحق فلا ورود. انتهى.
وقال الشيخ العلامة المحقق لطف اللّه بن الغياث في شرحه على الفصول: واحتجوا بأنه لايجوز أن يخاطب بشيء ويريد به غير ظاهره في العلمي مثل عموم الوعد والوعيد وإلا كان معمياً وملبساً، فقد ثبت أن دلالة العموم قطعية. كذا في شرح المقدمة للنجري قال: وهذا الدليل كما ترى يعم العلمي والعملي فينظر ماوجه المخصص بالعلمي.. الخ.
قلت: لله أنت لاوجه له إلا أنه قد بدا لهم فيه الاحتمال بزعمهم لكثرة التخصيص وهو لازم لهم في العلمي على سواء، وقد استدلوا على ذلك بالإجماع من السلف على التخصيص بالآحاد.
والجواب: أن مستندهم في حكايته كما قرروه الاستدلال عليه بأنهم خصصوا نحو قوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ)) بحديث النهي عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها وعددوا من هذا القبيل صوراً مجمعاً على تخصيصها من عموم الكتاب ولاطريق إلى كون التخصيص بها وحدها سلمنا، فمن أين لهم أنها رويت للسلف بطريق الآحاد ولم لاتكون متواترة لهم ومتلقاة بالقبول؟(1/16)
ولايقال: لأنها لو كانت متواترة وكان التخصيص بغيرها لنقل، لأنا نقول: الإجماع قد أسقط مؤنة نقلها وأغنى عن التعرض للإستدلال بها وبغيرها: وقد نص الكل بأنه إذا أجمع على الحكم سقط وجوب البحث عن المستند.
فإن قيل: إنهم أجمعوا على التخصيص مستندين إليها وهي آحاد.
قيل: هذه دعوى ممنوعة غير مسموعة، فهلم الدليل وليس إليه من سبيل، غايتها حكايات لاتفيد الظن فضلا عن العلم، وقد بينا أن أصلها منهار ولم يثبت له عماد ولاقرار، واستدلوا بأنها كثرت المخصصات في العمومات العملية والظن يكفي في العمل.
والجواب: أن الكثرة لاتخرجها عن القطعية كما أسلفنا على أنه لازم لهم في العلمية وهم لايقولون به، وأما كونها في العمليات والظن يكفي في العمل، فإنها وإن سلم أنه يكفي فيها الظن فلايقتضي أن تكون أدلتها كلها ظنية على سنن بل العمل بالظن مقصور عليها قصر الصفة على الموصوف وليست مقصورة عليه كما ذلك معروف.
ومما يعضد هذا المذهب ويقويه ويشهد له بالمتانة عند ناظريه أن كثيراً من أئمتنا عليهم السلام يتأول الأخبار الخاصة ويترك عموم الكتاب على بابه مع إمكان التخصيص.
والقاعدة: أن تخصيص العام أولى من تأويل الخاص من ذلك حديث الخضروات في الزكاة.
قال الإمام المؤيد بالله عليه السلام في شرح التجريد بعد أن تأوله على القليل الذي لاتجب فيه الزكاة:
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إذا استعملتم الخبرين أعني: (( فيما سقت السماء العشر )). وقوله: (( ليس في الخضروات صدقة )) بأن جعلتم حديث الخضروات خاصاً وبقيتم قوله: (( فيما سقت السماء العشر)) على عمومه إلا في المقدار الذي ذكرتم.
قيل له: يرجح استعمالنا بقوة خبرنا إذ لا إشكال أن قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( فيما سقت السماء العشر )) أقوى وأثبت من حديث الخضروات. انتهى، وغير ذلك مما اشتملت عليه قواعدهم المعروفة وطرائقهم المألوفة، وغرضنا التمثيل لا التطويل.(1/17)
والعجب من المولى الحسين بن القاسم عليهما السلام كيف لم ينسب الخلاف في جواز التخصيص للكتاب والمتواتر إلا عن الحنابلة بحكاية أبي الخطاب وعن المعتزلة بحكاية الغزالي وعن طائفة من المتكلمين والفقهاء بحكاية عن ابن برهان وعن طائفة من أهل العراق ولم يرفع لخلاف والده الإمام القاسم عليه السلام رأساً ولا رأى في إلغائه عن الحكاية مع جملة المخالفين بأساً، وهو يمنع من ذلك أشد المنع كما صرح بذلك في كتابه الاعتصام.
وقال في الجواب على الخصوم: والجواب والله الموفق أن القرآن معلوم المتن ويجب التمسك بظاهره والحمل على جميع مايتناوله حتى يعلم المخصص له، ويجب البحث عن ذلك والحديث الآحادي ليس معناه ولا لفظه كذلك إلى أن قال: قالوا الظن كاف في صحته. قلنا وبالله التوفيق: ذلك مردود بقوله تعالى: ((إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) وقال تعالى: ((إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)) فأنى لهم أن الظن كاف والقرآن يجب التمسك به، وذلك معلوم من الدين ضرورة مالم يظهر الناسخ والمخصص وتحكيم القرآن على الحديث الآحادي أولى من العكس، لأنه مما علم من دين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ضرورة، وأنه مما أنزل اللّه تعالى ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) الاية ونحوها، ولأنه إذا تعارض معنى القرآن المظنون بزعمهم والحديث الآحادي المظنون فالعقل يقضي ضرورة أن معنى القرآن المذكور أرجح، وترجيح ماذلكم شأنه مجرد تحكم. انتهى كلامه عليه السلام.(1/18)
وأقول: إن من تصفح استدلالات أعلام الأئمة وهداة هذه الأمة كالإمام القاسم نجم آل الرسول وسبطه الهادي إلى الحق صلوات اللّه عليهم، واطلع على معين علمهم المخزون، وتروى من سلسبيل نميرهم المكنون، علم أنهم مخيمون على عموم الكتاب وخصوصه، واقفون عند إشاراته ونصوصه، قد أمكنوه زمامهم وجعلوه رائدهم وإمامهم، يحلون حيث حل، وينزلون حيث نزل كما قال بمعناه والدهم سيد الوصيين صلوات اللّه عليهم فهم: لايبغون عنه حولا ولايبتغون به بدلا، ولاغرو فهم قرناؤه وأمناؤه ولن يفترقا حتى يردا على الحوض.
نعم وبعد التقرير لما صح في هذا الأصل باحثت كثيراً من علماء العصر فوجدت الأغلب يميل إلى كلام الجمهور إلا المولى العلامة الأوحد إمام التحقيق ونبراس أرباب التدقيق شرف الدين الولي بن الولي الحسن بن الحسين الحوثي حماه اللّه تعالى فإني راجعته في ذلك فقرر مابينته في هذا الأصل، ومعاذ اللّه أن يذهب هذا المذهب عن قول طائفة في كل عصر من حماة التنزيل ووعاة التأويل، وإن كان قد قال بخلافه ثلة من شموس الهداية وأقمار الدراية، ولايعترض على ذلك أنهم كلهم يخصصون الآيات القرآنية، وقد لايستدلون إلا بخبر أو نحوه لايفيد القطع، لأنا نقول: لاطريق إلى كون التخصيص بالخبر الآحادي على انفراده، ثم من أين لكم العلم بأنه عندهم غير معلوم، بل يكفي في قطعيته تلقيه بين العترة والأمة على أن الحكم إذا كان مجمعاً عليه لم يبحث عن سنده كما أسلفناه لك وهو مقرر مرسوم، فياسبحان اللّه، ما باله ضل عن هذه القاعدة الخصوم؟
وعلى الجملة إن هذا الأصل لم يتقرر بدليل قاطع ولابرهان ساطع، وطالب الحق الصريح بالنظر الثاقب الصحيح لاتروعه القعقعة بالشنان، ولاتهوله مجاولة الفرسان، ومنازلة الأقران، ولاتميل به الرجال من يمين إلى شمال فيكون من دين اللّه على أعظم زوال.(1/19)
[رجوع المؤلف إلى أنه يصح التخصيص للعمومات من القرآن والمتواتر من السنة بأخبار الآحاد الصحيحة]
اعلم أنه بعد إعادة النظر وتكرير البحث وتتبع الأثر تقرر عندي صحة التخصيص للعمومات من القرآن والمتواتر من السنة بأخبار الآحاد الصحيحة لما علم من اكتفاء الشارع بتبليغ الآحاد في ذلك، إذ قد تواترت التخصيصات بالآحاد لبعض العمومات القرآنية كقوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ)) بما ورد من تحريم نكاح المرأة على عمتها أوخالتها. ولقوله تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)) ونحوها مما يفيد العموم في القليل والكثير بخبر الأوساق وأنصباء الذهب والفضة وحول الحول وسقوط الزكاة عن المال غير المرجو وعن الخضروات وغير ذلك مما يكثر تعداده مع أن الدليل على قبول خبر الآحاد من حيث هو قطعي ولايبعد الإجماع على التخصيص بها حتى أن المانعين من ذلك قد خصصوا بها، ويحتمل أنهم رجعوا عن المنع وهذا هو التحقيق، والله تعالى ولي التوفيق.
فإن قلت: ما الطريق المرضية على القول بأن العمومات العملية ظنية وإن كانت متونها قطعية في جواز التخصيص دون النسخ بالآحاد، وقد تقرر أنهما من واد واحد، وبطل الفرق بينهما بالإجماع على جواز التخصيص كما مر في ذلك النزاع؟
قلت: الطريق إلى عبور هذا المضيق هي أنه لم يكثر عندهم إلا التخصيص، وهو إخراج بعض ماتناوله العموم، فلم يكن الاحتمال إلا في أفراد بعض مادل عليها على سبيل البدل من غير تعيين، ولهذا كانت دلالته على كل فرد بعينه محتملة ظنية لجواز عدم إرادته، وأما دلالته على بعض منها فهي معلومة قطعية لكنه غير متعين، ألا تراهم يقولون: لايصح تخصيص السبب، ما ذلك إلا لتعينه والقطع على إرادته ومن هنا يعلم الفارق لأن النسخ يرفع استمرار كل ما أفاده الخطاب، فلا محالة تدخل تلك الدلالة القاطعة ويزول حكمها بلا ارتياب ويكون قد نسخ القطعي بالظني، وهو خلاف المنهج الشرعي.(1/20)