وكذلك اعتبار الشروط في الإمام قطعية، لأن الإمام قائم مقام الرسول، فلابد أن يحوز صفاته إلا الوحي، وكذلك لايجوز لأحد عامي ولاعالم أن يعتقد إمامته إلا بعد ثبوت تلك المزايا والصفات له إما بالتواتر أو إجماع العلماء أو الاختبار حتى يحصل له العلم باتصافه بها، هذا ظاهر كلام الأئمة في الإيراد والإصدار، ذكره الفقيه ابن سليمان وقرره العلامة علي بن محمد البكري والإمام عز الدين وقد صرح به قاسم بن حسن إلا في مسألة العلم، فإنه شرع للعوام التقليد للعلماء فيه لعدم معرفتهم، فيعملون بقول العلماء إن الإمام قد أحرز القدر المعتبر فيه بخلاف سائر الشروط فلا بد له من العلم بها، وبهذا قال الإمام أحمد بن يحيى عليه السلام، فإنه ذكر أنه يجب على العوام معرفة ما عدا العلم من الشرائط بالخبرة أو التواتر وإذا عرف الإمام من العامي أن اعتقاده صدر لاعن دليل فلاشك في لزوم الإنكار لإقدامه على قبيح، ذكر ذلك الإمام عز الدين وعلي بن محمد البكري، وليس لقائل أن يجوز التقليد في المسائل الفرعية القطعية الظنية، لأنا نقول: لايجوز ذلك فيما كان منهما عملي يترتب على علمي كمسائل الشفاعة والموالاة.
ومسألة الإمام إما علمية كاعتقاد إمامته أو عملية تترتب على علمي كتسليم الحقوق إليه ووجوب طاعته ونصرته، وهي مترتبة على العلم باستجماعه للشروط، وقد أضرب الأخ الصفي عن مابناه وبنوه الأئمة، بل لايزال يبعث بواحد يلزم الناس اعتقاد إمامة سيدي محسن وتسليم الحقوق إليه إلى العالم والجاهل، وهو عين القبيح وطلبا لتقليده، وهذا على فرض عدم تقدم مجاب وإلا فلايجوز له ولا لغيره الاعتقاد، وهذا منه محض طلب أن يقلدوه الناس على اعتقاده فياسبحان الله.(1/191)


وأما قول الأخ الصفي إنه لاتحاكم في هذه المسألة لأنه لاتحاكم إلا في المسائل الظنية، وذكر ذلك في الرسالة الواصلة إلينا بخطه ومن طلب المحاكمة فقد أحيا سنة معاوية، وإنما الطريق المناظرة. فنقول: قد خلط الأخ الصفي المسائل القطعية عقليها وشرعيها وليس كذلك فإن مسائل العلم العقلية كمعرفة الصانع وصفاته ومسائل التوحيد والعدل عقلية ليس فيها إلا المناظرة فقط، وأما المسائل القطعية الشرعية أعني التي دليلها الشرع الشريف لا العقل، فمرجعها الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وقد أجمعت الأمة وفيها الآل أن نصب الحكام للحكم وفصل الشجار بين الناس في القطعي والظني وكم في المعاملات من قطعي كآي المواريث وغيرها، ولو كان كما ذكره القاضي الصفي إنما هو في الظني لا القطعي، للزم كل حاكم أن ينظر في القضايا فما وجده قطعياً خلى المتشاجرين على فتنتهم وهواهم، مثلاً لايحكم في ميراث الزوجة ولافي ميراث الزوج ولا الأولاد ولا الإخوة لأم وماثبت في الفرائض بالقطع من كتاب وسنة، وهذا لايقول به أحد من العلماء ولاغيرهم، إلا أنه يحكم فيما قدم عليه من الخصومات قطعيها وظنيها فإن كان ظنياً صار ما حكم به في الظني قطعياً ينفذ ظاهراً لاباطناً ولو كان خلاف مذهب الخصم، وأما القطعي فذاك حكمه في نفوذه الحكم به ظاهراً وباطناً ولاينقض حكمه العلمي فقط، فعرفت هذا القول وخرقه للإجماع، ولنذكر الدليل على ثبوت التحاكم في هذه المسألة وهي معارضة الإمام أو الخروج عن بيعته بعد صحتها وغيرها، وأن المحاكمة طريق لأهل الشريعة الغراء وإجماع الأمة أن الحاكم والإمام لايحكم لنفسه ولايرد عند الاختلاف إلى الهوى ويتبع كل أحد هوى نفسه، وأما شرع نصب الأئمة والحكام لفصل الخصومات ودفع المظالمات وردع المعتدين ويعين المظلومين.(1/192)


فأولاً في خصوص محل النزاع محاكمة الوصي أمير المؤمنين، ومعلوم أنه الإمام قطعاً عند الموالف والمخالف، والحال أن إمامته قطعية في تلك الحال، وكتاب الله كله له ولم يفعلها معاوية اللعين إلا خديعة ونشر المصاحف فبين أمير المؤمنين لأصحابه ذلك ولم يرد المحاكمة بل قبلها بشرط أن يحكم الحكمان بكتاب الله واشترط أن يكون الحكم مرضياً وهو عبدالله بن العباس جنب الخداع المكار فأبى الخوارج وقالوا: أبا موسى. وهو عدو الوصي الذي امتنع من بيعة أمير المؤمنين، وثبط أهل الكوفة من بيعته، وأكرهوه عليه، ثم بعد ذلك مرقت المارقة واعترضوا عليه أولاً بأنه حَكَّم الرجال ولاحكم إلا لله فاحتج عليهم عبدالله بن العباس رضي الله عنه وأمير المؤمنين عليه السلام بنفسه. وقالوا في الحجة على الخوارج: إن الله جل جلاله قد حكم الرجال في ربع دينار أوأربعة ونحوها من صيد البر للمحرم فقال: ((يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ)) وحكم الرجال في المرأة حيث قال: ((فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا)) فكان على مقتضى قول القاضي أحمد أن يقرر أمير المؤمنين قول الخوارج إنه لاحكم في الإمامة للرجال ولايحكم ويقول الوصي صدقتم، وإنما أكرهوني بل رد قولهم واحتج عليهم بأن التحكيم في هذا وغيره سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وإن كان الطالب لحكم الله والرجوع إلى كتاب الله عند الاختلاف محيياً لسنة معاوية فيا سبحان الله، فالأخ الصفي قد أحيا بإنكار التحاكم سنة المارقين، والإمام المنصور بالله أحيا سنة جده أمير المؤمنين وسلفه من الأئمة السابقين: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)) [النور:51]، ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)) [الشورى:10] ((فَإِن تَنَازَعْتُمْ(1/193)


فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59] والرد إلى الله هو الرد إلى كتاب الله، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته صلى الله عليه وآله وسلم. وعموم (من شيءٍ) أدخل القطعي والظني فما المخصص الشرعي كهذه المسألة، وقوله تعالى: ((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)) [النساء:56]، وانظر إلى عموم قوله من شيء وما المخصص الشرعي، ولله در كتاب الله: ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) [الحجرات:9]، وهذا في محل النزاع والقسط العدل ماورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وروينا عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ستكون فتنة)) فقلت: يارسول الله فما المخرج منها؟ قال: ((كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم مابينكم والفصل ليس بالهزل من اتبع الهدى من غيره أضله الله وهو الحبل المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم وهو الذي لاتزيغ به الأهواء ولاتلتبس به الألسنة ولاتشبع منه العلماء ولايَخْلَقُ على كثرة الرد ولاتنقضي عجائبه)) وفي رواية: ((من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)).(1/194)


وروي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم. ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين. ويفرق بين أصابعه السبابة والوسطى ويقول: أما بعد فإن خير الهدى هدي محمد _صلى الله عليه وآله وسلم_، فهذه القطعية ومادلت عليه فهو إجماع الأمة كما شرحناه، وهذا على فرض أن محل النزاع قطعي وقد نصوا أن اختلاف الأئمة والمعارضة بينهما وكونه هل يصح إمامان في قطرين وغير ذلك ظني لاقطعي فالأمر أهون فتكون المحاكمة واجبة قطعية عند الأخ العلامة ولكن الأخ العلامة كثير التمويه على من لامعرفة له بمسائل الإمامة كما هو شأن الأكثر من أهل الفقه لايعرفون إلا مافي شرح الأزهار ومحلُ بحثها وسعةُ أدلتها وذيولُها في كتب الأصول وفي مسائلها دقة تحتاج إلى نظر ثاقب لكثرة الخلافات والتشكيكات، والواجب على العالم والعامي معرفتها بأصولها وأدلتها وفروعها للحاجة الماسة إليها، ولايعذر أحد عن جهلها كما ذكره علماء آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.(1/195)

39 / 83
ع
En
A+
A-