الأصل في هذا النزاع أنها صدرت منا الفتوى على مقتضى مادلت عليه الأدلة المعلومة، وجرى عليه عمل السلف والخلف أن الحاج والمعتمر متى وصل إلى أحد المواقيت الشرعية التي وقتها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لمن حج أو اعتمر أحرم منه ولايتجاوزه إلا وقد أحرم، وفي هذه المدة اليسيرة الأخيرة لما كان أهل اليمن يتوجهون للحج في وقت متسع خوفاً من إغلاق الحدود رأى البعض منهم مع تيسر المواصلات بالسيارات أن يقدم الزيارة ويتجاوز الميقات الذي وقته رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بدون إحرام اعتماداً من البعض على قوله في الأزهار: إلى الحرم. ومن البعض على أنه لم يقصد الحج إلا بعد الزيارة، ويقول: إنه لم يقصد بسيره هذا الدخول إلى الحرم أو الحج وأنه لايريد الإحرام الآن. فأفتينا من سألنا عن قولنا في ذلك: إنه لا يجوز لهم مجاوزة الميقات الشرعي الذي وقته لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ووصلوا إليه أولاً مهما كانوا حجاجاً أو معتمرين لأنهم في تلك الحال ممن أراد الحج كما هو في بعض الألفاظ النبوية، وهم في حال سيرهم للزيارة قد جاوزوا الميقات الذي شرع لهم الإحرام منه مريدين للحج منه فلم ينقطع سيرهم للحج وإرادتهم له التي هي في الخبر مصرحاً بها ممن أراد الحج.. الخ. بقصدهم الزيارة ومهما كانوا في ذلك السفر الذي سافروا للحج فهو يطلق عليهم حجاج قطعاً لغة وعرفاً وشرعاً، ولايخرجهم القصد للزيارة وقد وقت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذلك الميقات الذي وصلوا إليه لمن حج أو اعتمر، وليس المراد بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لمن حج أو اعتمر..)) من فعلهما قطعاً، وإنما هو من أرادهما ماشياً إليهما مزاولاً مقدمات أعمالهما كما في قوله تعالى: ((فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) [النحل:98] و ((إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ..)) [المائده:6] أي أردت القراءة وأردتم(1/151)
القيام، فللإرادة مع التوجه للفعل تأثير قطعاً
ولا المراد بقوله: ((لمن حج أو اعتمر)) لمن أراد الإحرام، لأن ذلك ليس معناه لا لغة ولاشرعاً، وليس الإحرام إلا جزءاً من أجزاء الحج، والأخبار لمن حج أو أراد الحج، ويلزم على القول هذا أنَّ مَنْ وصل الميقات، وهو يريد الحج أو العمرة إلا أنه لايريد الإحرام من الميقات وإنما يريد الإحرام بعد دخول مكة ألَّا يلزمه الإحرام لأنه ماقد أراد الإحرام وليس ميقاتاً إلا لمن أراد الإحرام، وهذا خلاف المفهوم المعلوم عند الأمة، وخلاف مارواه الأثبات من الإجماع على أنه لايجوز لمن أراد الحج أو العمرة مجاوزة الميقات الذي يصله إلا بإحرام، وأيضاً يلزم ألا يكون للتمتع ثمرة أصلا، لأنه على هذا القول لايحتاج إلى الإحرام من الميقات بل يكفيه ألا يريد الإحرام منه، بل يريد تأخيره إلى يوم عرفه مثلا ويبقى في مكة متمتعاً بدون إحرام إلى وقت إرادته الإحرام، والمعلوم عند الأمة أنه لايجوز لمن وصل أي المواقيت وهو حاج أو معتمر أي مريد لهما أن يتجاوزه داخلا إلا بإحرام، وهذا هو المفهوم من التوقيت لامعنى له إلا ذلك، وإلا كان الميقات وغيره على سواء متى أراد الإحرام أحرم من أي مكان فكأنه قال: من أراد أن يحرم من الميقات فليحرم منه، وأيضاً لامعنى على هذا أن يكون لأهل كل جهة ميقات بل يكفي أن يقول هذه المواقيت لكل من أراد الإحرام من أي جهة فيصح للمدني أن يدخل من ذي الحليفة مريداً للحج ولايحرم إلا من وادي السيل مثلاً، لأنه لايريد الإحرام إلا من هناك، وكذا أهل كل ميقات يتجاوزون مواقيتهم مريدين للحج ويؤخرون الإحرام إلى ميقات آخر، لأن ميقاتهم ليس ميقاتاً إلا لمن أراد الإحرام منه، وليس كذلك من أراد بسفره أو مشيه الحج لأنه كما سبق يطلق عليه اسم الحاج وأنه حج وقد دل عليه قوله: ((لمن حج)) إذ ليس ا لمراد من فعل الحج ضرورة بخلاف الإحرام فلم يطلق عليه الشرع أنه أحرم ولا أنه محرم إلا بعد فعله،(1/152)
وأما الحج فقد أطلقه عليه قبل فعله ضرورة فتدبر
ولا يقال: إنه بدخوله الميقات ومجاوزته له غير قاصد بذلك الدخول والمجاوزة الحج.
لأنا نقول: قد وقت الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم هذا الميقات الذي وصلت إليه فمتى وصلته حاجاً فلايجوز لك مجاوزته وتعديه بغير إحرام، لأن هذا معنى جعله لك ميقاتاً متى حججت لامعنى له غيره، وأنت في هذه الحال ممن حج قطعاً، إذ قد علم أنه ليس المراد بمن حج من أكمل الحج بل من فعل مقدماته مع أنك بقصدك المدينة المطهرة وسيرك إليها لم ينقطع سيرك للحج في تلك الحال، لأنك تريد الحج الآن من هناك فسيرك هذا هو للحج والزيارة، وإلا لزم أن من مشى لأي حاجة من الحاجات غير المشي للحج بعد دخول المواقيت أو قبل أن ينقطع سيره للحج في تلك الحال كمن يتوجه إلى مطعم أو محل مبيت أو لقضاء الحاجة لأن ذلك السير ليس إلى الحج أو الحرم.
وعلى هذا فلايصح حج الأجير على المذهب لانقطاع سيره، ولايكون للحاج في ذلك أجر الحاج لخروجه في تلك الحال عن اسم الحاج، وأيضاً فلايمكن مجاوزة الميقات إلى الحرم أو إلى الحج لأنه لابد من اشتغاله بغير المشي إلى الحرم والحج، فلايلزم الإحرام إلا من لايعرج على أي حاجة غير المشي المقصود به الحرم أو الحج، وهذا محال. لايقال: إن المشي لتلك الحاجات يسير بخلاف السير إلى المدينة فكثير. لأنا نقول: ليس ثمة دليل قط على الفرق بين الكثير والقليل مهما لم يخرجه ذلك عن اسم الحاج واسم من حج(1/153)
لايقال: فيلزم أن من وصل الميقات أول السنة وهو مريد للحج آخرها أو بعد أن يصل إلى الهند أو مصر أو لندن أنه يجب عليه أن يحرم، لأنا نقول: من كان كذلك لايقال له حاج ولا إنه سائر للحج ولامسافر له، ولايلزم الإحرام إلا من يصح إطلاق اسم الحاج عليه، ويصح أن يقال: إنه حج. لأن الشرع جعل التوقيت لمن حج لا لمن كان كذلك فلايطلق عليه أنه حج لالغة ولاعرفاً ولاشرعاً، فليس في سفر الحج ولاهو بصدد الحج، ولو سماه أحد حاجاً لعد ساخراً مستهزءاً، فيا سبحان اللّه أين هذا من ذاك؟ ولقد أطنبت في ذلك لقصد الإفادة بتقرير المسألة وإيضاح ماعندي في ذلك، فمن كان قابلاً فأقل من هذا يكفيه ومن لايقبل فلامعنى لمعاناته
ولم أقصد كما علم اللّه تعالى الإنكار على من تقرر عنده من أهل النظر والترجيح خلاف هذا وأقول كما قال اللّه تعالى: ((فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)) [الزمر:17-18] وماكان يقدر أن يحدث في هذا خلاف لما عليه الأمة من أن الحاج متى وصل الميقات لم يتجاوزه إلا بإحرام، وحين حدث الخلاف لم تزل المراجعة والمذاكرة بيننا وبين العلماء الأعلام على الطريقة المألوفة بين العلماء في مسائل الخلاف بدون مجافاة ولادعاوى باطلة، حتى إن بعض الأعلام من الذين لم يوافقوا في هذه المسألة يحكي للناس ما أفتينا به ويقول: هو الأحوط والأولى. في كلام فيه الإنصاف والتواضع والاتزان.(1/154)
هذا وقد أجاب عنها القاضي العلامة حليف الفضل والاستقامة صلاح الإسلام صلاح بن أحمد فليته حفظه اللّه وتولاه وهو من العلماء الموافقين على ما أفتيت به، ومنهم السيد العلامة نجم العترة الأكرمين عماد الدين يحيى بن عبداللّه راويه، ومنهم السيد العلامة بدر آل محمد الأعلام بدر الدين بن أمير الدين بن الحسين الحوثي، والسيد العلامة صارم ا لإسلام إبراهيم بن علي الشهاري، والقاضي العلامة عمدة المحققين جمال الإسلام علي بن إسماعيل المتعيش، والسيد العلامة صلاح الإسلام وبدر الأعلام صلاح بن محمد بن إبراهيم الهاشمي، فقد وصل إليَّ وأفاد أنه تقرر عنده أن ما أفتينا به هو كلام أهل المذهب، وغير هؤلاء، وإنما ذكرتهم لنقل صاحب الرسالة عن بعض العلماء وإلا فالحق أحق بالإتباع سواء قال به قليل أم كثير، بل الأغلب أن يكون الحق مع القليل، ولسنا نستوحش بحمد ا لله تعالى في جانب الحق لقلة ولانهاب خلافه لكثرة، ولقد أصدرت الفتوى وأنا أعرف أنه سيعدل إلى الترخيص في الكثير لميل النفوس إلى مافيه التخفيف، ولكون الشبهة سريعة الانقداح ولاتحتاج إلى نظر وإنما خلافها هو الذي يحتاج إلى نظر وتحقيق، والله تعالى ولي التوفيق.
هذا فأقول: قال صاحب الرسالة: إنه يكفي السائل في فهم ماقصده من تحقيق المسألة صريح الأزهار، فإنه نص على: عدم لزوم الإحرام إلى آخره.(1/155)