وأما قولك: وهل يتمكن حامله من معرفة كل غيب في المستقبل؟ فالجواب: سبحان اللّه لايعلم كل ذلك إلا اللّه سبحانه، وإنما يتمكن من معرفة ماذكر فيه من العلم لاغير، فالعموم الحقيقي غير مقصود وإن وقع في ظاهر عبارة، فالواجب حملها على مايجوز ويمكن عقلا وشرعاً، وقد وردت عمومات كثيرة في كتاب اللّه تعالى وسنة رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ولايراد بها العموم الحقيقي كما قال تعالى: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)) [الأحقاف:25] ((وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ)) [النمل:23] ((خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الأنعام:102] وقد روي في الصحاح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خطب خطبة أخبرهم فيها بماهو كائن إلى يوم القيامة. قال حذيفة رضي اللّه عنه: أخبرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بماهو كائن إلى أن تقوم الساعة. أخرجه مسلم، وقال حذيفة أيضاً: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مقاماً فماترك شيئاً يكون من مقامه ذلك إلا حدثنا حفظه من حفظه ونسيه من نسيه. أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. وقال عمرو بن أخطب الأنصاري: صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبر بما هو كائن إلى يوم القيامة فأعلمنا أحفظنا. أخرجه مسلم، وهذا كثير لايجهله أحد من أولي العلم.
وأما قولك: وهل بقي منه شيء؟
فالجواب: العلم لله سبحانه، وأمامايدعيه المنجمون والكهنة فليس منه في شيء وإنما هم مفترون دجالون، وقد ورد فيمن صدقهم فيما قالوه ماورد، ولايعلم الغيب إلا اللّه تعالى كما قال تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا {26} إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)) [الجن:26].(1/146)


وأما قولك: هل يليق بمسلم أن يفسق مسلماً خالفه في فرع من فروع الدين.
فالجواب وبالله التوفيق: أنه لايجوز ولايحل التفسيق والتكفير إلا ببرهان قاطع، وقد قال الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((سباب المسلم فُسُوق وقتاله كفر)) أخرجه الإمام الناصر الأطروش والبخاري وغيرهما.
وأما قولك: هل تصح إمامة المسلم المتبع للمذهب الزيدي.. الخ؟
فالجواب والله الموفق: أنه لايجوز تفريق جماعة المسلمين المؤمنين، وأن الواجب الألفة وإصلاح ذات البين بين المؤمنين كما قال تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) [الحجرات:10] ((اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)) [الأحزاب:70] والراجح أنه ينبغي للإمام أن يتجنب ماليس مفسداً تركه ولايرى وجوبه والمؤتم يراه مفسداً قصداً للألفة واجتماع الكلمة، وقد قال الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي)) أو كما قال. والذي فعله هو الحق والصواب، ولكن لاستطابة نفوس أصحابه لمَّا شق عليهم، وقد قررت البحث في هذا في المنهج الأقوم جمع اللّه تعالى شمل المؤمنين، وأصلح ذات بينهم، ووفقهم لرضاه وتقواه. حرر نقله شهر الحجة الحرام سنة (1395 هجرية) على صاحبها وآله أفضل الصلوات والسلام كتب الفقير إلى اللّه تعالى أحمد بن يحيى بن أحمد بن عبدالكريم حجر، وفقه اللّه لصالح الأعمال.(1/147)


كتاب فصل الخصام في مسألة الإحرام
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله الكبير المتعال، ذي العزة والجلال، المحمود على كل حال، المسئول للتسديد في الأقوال والأفعال، المستعان به في جميع الأعمال، المستعاذ به من الزيغ والخذلان والتضليل والإضلال، والصلاة والسلام على من ختمت به النبوة والإرسال، الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمره ذو الجلال، وعلى آله الذين أوجب مودتهم في الذكر المبين والتمسك بهم كما في أخبار السفينة والنجوم والثقلين، وحرم عليهم الزكاة، وأمر بالصلاة عليهم في الصلاة، كما في أخبار التعليم والتلقين، وبعد..(1/148)


فقد كان الإطلاع على رسالة مشتملة على نسبة أقوال هي خلاف الواقع متضمنة للفساد في الاحتجاج، وماكنا نقدر أن تصدر ممن له في العلم قدم راسخ ومن التقوى ورع حاجز، أو ينقاد للذي لفقها له وحمله على نشرها لما هو عليه من الغرور، مع أن المسألة فقهية فرعية لا تستوجب التطويل ولاكثرة القال والقيل، ولو أبدى فيها رأيه بدون تعرض للأعراض ونسبة أقوال لا أصل لها لما كان عليه ملام، وإن كان قد أنكر ذلك وقال: إن الاجتهاد لايثبت بالرأي، ولولا وجوب البيان ورفع التغرير لأعرضنا عن الجواب، وقد كنت توقفت عن الإجابة حتى يكون الإعذار لتأكيد الحجة وكراهة الجدال المورث للفرقة، فتوجه إليه السيد العلامة الولي إبراهيم بن علي الشهاري حفظه اللّه تعالى لقصد النصح بعد أن تألم من هذه الرسالة هو وغيره من العلماء الأخيار حتى الذين جرى بيننا وبينهم الخلاف في هذه المسألة، ولكنه خلاف على الطريقة المألوفة بين العلماء المنصفين، فوصل إليه وأبلغ المجهود في النصح فأظهر التأسف والاستغفار، فأخبره أنه يلزم البيان فأمره بكتابة ذلك ثم بعد ذلك أوصل إليه ورقة فيها بيان الرجوع عن تلك الرسالة فوافق على ذلك، ثم أضرب عما كتب، وبعد ذلك أرسل رسالة فيها تقرير للأولى، وأنه أجاب بما اقتضاه نظره، وأنه أبدى رأيه وأنه قول جماعة من العلماء المتقدمين والمتأخرين وعليه العمل من بعض العلماء الآن، قال: وقد وقع في بعض ألفاظ الجواب عبارات توهم بعض الإخوان العلماء أن ذلك تعريض بمن يلتزم خلاف هذا، وذكر عدم الجواز.. الخ.
ولم يظهر فيه أي رجوع، وكيف يقول عبارات توهم إلى آخره، وهي تصريحات بنسبة أقوال إلى القائلين، لم يقولوا بها كما يراها المطلع ولم ننكر عليه ما نسبه إلى نفسه أو إلى بعض العلماء وأشف مافيها أنه قال: لازلت ولن أزال إن شاء اللّه تعالى مقتدياً بآل رسول اللّه مقتفياً آثارهم متبعاً آراءهم لا أعدل بهم سواهم وسأموت على ذلك إن شاء اللّه.(1/149)


ونقول: إنه لم يؤلمنا ماوقع إلا أنك من أهل هذا المذهب، فما عدا مما بدا؟
ثم قال: فإن كان قد وقع مني خطيئة في هذا أو غيره فأنا أستغفر اللّه العظيم التواب الرحيم وأتوب إليه من كل ذنب أذنبته أو سيئة اقترفتها لأي أخ مسلم صغير أو كبير، أما المسألة فللناظر نظره ولا اعتراض على من اتبع ما ظهر له ترجيحه أو قلد من اختار تقليده من العلماء الأعلام، فهذا ما أدين الله به وأعتقده إلى آخره.
وهذا كلام سليم وقول قويم، إلا أنه لم يصرح فيه بالرجوع عما فيها من الأقوال المخالفة للواقع والرواية عن القائلين لما لم يقولوه فلزم البيان للحق، أما هو فإن كان في علم اللّه تعالى أنه قد غُلب على أمره أو عنده أنه قد أدى ماعليه وأبلغ جهده فلايكلف اللّه نفساً إلا وسعها والحكم لله العلي الكبير، ووجب أن أتكلم لتحقيق المسألة وإن لم تكن هي المراد لما في ذلك من الفائدة المقصودة والثمرة المنشودة، ولأنه قد سألني بعض العلماء العاملين
فأقول وبالله التوفيق إلى أقوم طريق:(1/150)

30 / 83
ع
En
A+
A-