ولايقال: إن الاحتجاج بحديث العرض غير مستقيم، لأنه ليس إلا في الظنيات، وأما القطعيات فلا يتأتى فيها الكذب فلاعرض. لأنا نقول: قد أفاد حديث العرض أنه لايأتي من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم مايخالف القرآن، والناسخ مخالف، والمخالف لايتواتر، فيجب القطع بأن الناسخ لايتواتر، فمن هنا يتقرر الاحتجاج في محل النزاع وهو جواز النسخ أو منعه، فتأمل. وماكلامنا المتقدم إلا على فرض الوقوع، لأن الوقوع فرع الجواز، وقد قدمنا أنه لو وقع لم يكن إلا بقاطع، ومحال أن يكون القاطع مكذوباً على الشارع ولو وقع لارتفع التنازع، وفي قول بعض علمائنا رضي اللّه عنهم: وفُهِم صحة نسخ القرآن بالمتواتر من السنة خلافاً للقاسم وابنه محمد بن القاسم والناصر وابن حنبل وكذا الهادي والشافعي في رواية إذ هي حجة توجب العلم كالكتاب فيجوز كالكتاب بالكتاب. انتهى كلامه، تسامح في الحكاية وخلل في الاحتجاج.
أما الحكاية فإنهم لايقولون إن المتواتر من السنة لاينسخ الكتاب ومعاذ اللّه من ذلك، وإنما يقولون: إنه لايصح أن ينسخ الكتاب بالسنة، فلا يمكن أن يتواتر عندهم ناسخ من السنة.(1/11)
وأما الاحتجاج فإنهم يقولون بموجبه أي أنها إذا أفادت العلم فهي حجة، ولكنهم يذهبون إلى أنه لايجوز أن يتواتر ناسخ من السنة للكتاب، فهم يمنعون الجواز والوقوع معاً، فأما لو وقع لارتفع الخلاف وكان الائتلاف، وإنما يستقيم الاحتجاج لو صح النسخ أو بطلت أدلة المنع بحجة واضحة المنهاج متجلية الفجاج، وسنحكي كلام إمام الأئمة وهادي الأمة وترجمان الكتاب والسنة المبشر به جده الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم أفضل صلوات اللّه والتسليم. قال صلوات اللّه عليه في كتاب معاني السنة: والسنة فلم تعارض الكتاب أبداً بإبطال لحكم من أحكامه ولا أمر من أمره. إلى أن قال: ولا رد شيء من منسوخه ولانسخ شيء من مثبته. حتى قال: وفي ذلك مايقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فهو مني وأنا قلته وماخالف كتاب اللّه فليس مني ولم أقله ))..الخ كلامه عليه السلام. وكان على الناقلين لأدلة المخالفين كابن الإمام عليه السلام أن يحرروا هذا في حجج المانعين كما احتج به الهادي إلى الحق صلوات اللّه عليه.
وما استدلوا به على الوقوع كنسخ المتعة والوصية فليس بوارد، لأن المراد بالمتعة المذكورة في القرآن النكاح فلا نسخ وأما الوصية فالناسخ آية المواريث.
فإن قيل: قد ورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام المروي في النهج قوله: (( وبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنة نسخه)).
قلنا: يجب تأويله لقيام الدليل إما بأن يحمل النسخ على التخصيص، أو بأن المراد في السنة مع الكتاب نسخه.(1/12)
[المقارنة بين النسخ والتخصيص]
فإن قيل: أليس النسخ والتخصيص لديكم من باب واحد؟
قيل: لاشك في ذلك، ولكنه قد قام الدليل القاطع على وقوع التخصيص ووقع الإجماع عليه دون النسخ، فيقر ذلك على ماورد.
واعلم أنه لاثمرة في الخارج لخلاف المخالف في هذا ولا جدوى، إذ لم يتحقق النسخ بالسنة للكتاب، وإنما هو مجرد دعوى.
واعلم أن الحق الأحق والقول الأوفق أنه لم يظهر بين التخصيص والنسخ فرق سوى لزوم التراخي في النسخ وعدمه في التخصيص، وأما قولهم: التخصيص بيان، فغير متضح، لأنه إن كان باعتبار الانكشاف فكلاهما بيان، فالتخصيص بيان لعدم إرادة المخرَج من الأعيان، والنسخ بيان لعدم إرادة مابعد الناسخ من الأزمان وإن كان باعتبار الظاهر فكلاهما معارض غير مظاهر، وهذا أمر واضح المنار لايخفى على ذوي الأبصار، وماقيل من أن العمل بالتخصيص جمع بينهما لايصلح بل فيه دفع لبعض الدلالة والأصل بقاؤها فيهما.
[رأي المؤلف أنه لا تُخصَّص عموم الكتاب والأخبار القطعية بالسنة الآحادية مع التفصيل]
فإن قلت: يلزمك على هذا أن لاتخصص عموم الكتاب والأخبار القطعية بالسنة الآحادية.
قلت: هو مذهب بعضهم وحكى الإمام عدم جواز ذلك عن الإمام الأعظم زيد بن علي عليه السلام وأنا أقول لعمري إنه لمذهب قويم ومنهج مستقيم.(1/13)
واعلم أرشدنا اللّه وإياك أيها الراسخ الفهم الثابت القدم فأما من قعد به القصور فهو معذور وليس عنده من جنى الأثمار إلا القشور.
تجل عن الدقيق فهوم قوم .... فتحكم للمجل على المدق
والله عز وجل يعلم ماقصدنا إليه من الخطاب أن هنا أصلا أصَّلوه ومسلكاً نقوله وتقبلوه يجب فيه إمعان النظر الدقيق حتى يقف الباحث في كتاب ربه وسنة نبيئه صلى اللّه عليه وآله وسلم على محض الحق والتحقيق فهو حقيق بذلك أي حقيق وملخصه ومعناه وخلاصته ومؤداه كما يعلم ذلك ذو الإطلاع والانتقاد الملي بالإصدار والإيراد هو: أن كل ما أمكن أن يصرفه دليل عما وضع له أو يقصره على بعض مدلولاته أو يعينه في أحد موضوعاته: فهو ظاهر محتمل لايقطع بتناوله لما دل عليه وإن كان قطعي المتن فهو ظني المدلول إلا أن يكون في مسائل الأصول عند أئمتنا عليهم السلام وأتباعهم الفحول، وعلى هذا بنى الجمهور جواز التخصيص والتقييد للعموم والمطلق من الكتاب والمتواتر بالآحاد والقياس الظني، ويلزم على ذلك جواز النسخ كما قال به البعض إذ لافارق كما سبق، وهذا أمر جليل الخطر ذو شجون ونظر يترتب عليه أي أثر، والذي ندين اللّه به بعد إبلاغ غاية الوسع واستفراغ نهاية الطاقة أن هذا أصل مختل الأركان منهدم البنيان لم تقم عليه حجة ولم ينتهج إليه برهان.(1/14)
ولنوجه الكلام بما يليق بهذا المقام في مسألة الخصوص والعموم إذ عليها معظم مدار المنطوق والمفهوم، فأقول وبمادة ربي أصول: إن المعلوم من الوضع بالاتفاق دلالة صيغ العموم على جميع أفراد مدلولاتها دلالة مطابقة عند الاطلاق على سبيل الاستغراق، وليس هذا محل النزاع فيتعين الكلام عليه بالأدلة القاطعة والإجماع وقد تقرر في موضعه فيجب القطع حينئذ بحكم العقل والشرع عند العلم بإطلاق الخطاب من الحكيم أنه قصد جميع مدلولاتها وأراد كل فرد من أفراد متناولاتها وماتستلزمه من الأزمنة والأمكنة والأحوال بلا ريب في ذلك ولا احتمال إلا أن ينصب لنا على خلافه دليل أوينتهج إلى إرادة غير ما دلنا عليه سبيل تحكم كهذا الحكم به الألباب ويزول عمن طرق سمعه ذلك الشك والارتياب وأي ريب بعد ذلك يختلج أو احتمال يتردد ويعتلج ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)) ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) ((مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)). ولئن تطرق إلى ماهذا شأنه الاحتمال لشبهة أنه قد كثر فيه التخصيص والقاطع بما دل عليه أتي من قبل نفسه ليتطرقن إلى كل النصوص من عموم وخصوص ويَرِد ماقاله الرازي إن أصرح الألفاظ النص وهو محتمل لأمور كثيره كالتحريم للنسخ والتجوز والاشتراك والإضمار والتخصيص وغير ذلك، انتهى كلامه. فيرتفع القطع بجميع خطابات الشرع.
فإن قيل: يلزم أن لايجوز تراخي التخصيص ونحوه عن الخطاب.(1/15)