ومنها: أنه معلوم متحقق مرسوم عند من أعطى النظر حقه ولم يملك التعصب رقه من الوضع والخطاب الإلهي شمول أمم الكافرين والفاسقين والظالمين وغيرها من أسماء الذم للعاصين من الموحدين والملحدين، والقرآن مملوء من إطلاق اسم الكفر على من أخل بالشكر نحو قوله تعالى: ((قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)) [آل عمران:32] فإنها مصرحة بتسميتهم كافرين عن التولي عن الطاعة، وفي إقامة الظاهر مقام المضمر مالايخفى من النعي عليهم والشناعة، وكم في الذكر المبين من التصريح باختصاص النار بالكافرين ومعلوم بنص الكتاب الخلود فيها _نعوذ بالله تعالى منها_ لمن لم يكن خارجاً عن الملة من العاصين.
وهذا تبرع بمستند المنع عن الخروج عن أصل الوضع وهو لايلزمنا، لأن الأصل معنا ولعله غر كثيراً مايوجب التغاير من نحو قوله تعالى: ((وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)) [الحجرات:7] وليس ذلك بضائر فهو مسلم أنها غير مترادفة بل مختلفة المفاهيم متعددة المعاني لكن لانسلم عدم جواز اجتماعها في صاحب المعصية من الكبائر، فإن المعصية الواحدة يطلق عليها أسماء كثيرة متغايرة لاختلاف الاعتبارات مثلا من حيث كونها مخالفة للأمر تسمى عصياناً، ومن حيث كونها إخلالا بشكر المنعم تسمى كفراناً، وهلم جرا، والفرق بين هذا القول والقول بنفي المنزلة بين المنزلتين من الخوارج وغيرهم اختلاف الأحكام وعدمها، فأما الاصطلاحات الحادثة فلا تخرجها عن أصل الوضع وكذلك اختلاف الأحكام والمعاملات في الشرع وقد اختلفت أحكام الكافرين بالإتفاق، فللحربيين معاملات وللذميين كذلك ولم يوجب ذلك خروجهم عن التسمية وعدم الاشتراك، وحينئذ يعمهم الوعيد بإبطال جميع الأعمال والخلود في العذاب والنكال بلا ريب ولاإشكال.(1/121)
وعلى الجملة أن من أمعن النظر في مواضع التنزيل وكرر البصر في مواقع التأويل علم أنه لاهوادة بين اللّه تعالى وبين أحد من خلقه في انتهاك شيء من كبير حدوده ومحارمه، وأنه لاينفع مرتكبها شيء وإن كان على أفضل طاعاته وأجل مكارمه.
وكفى بما حكى اللّه تعالى في كتابه عن أنبيائه ورسله صلوات اللّه عليهم الذين هم أرفع شأناً وأعلا مكاناً وحسبك ماخاطب اللّه تعالى به خاتم رسله وأمين وحيه من قوله جل شأنه وتعالى سلطانه: ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ)) حتى ورد في الآثار أنها شيبت به صلى اللّه عليه وآله وسلم، فهي قاطعة لما يختلج حاسمة لما يتردد ويعتلج، فإن الوعيد فيها مصرح على الطغيان الصادق بأدنى تجاوز لما أمروا به وعصيان وبإمساس النار على الركون _وهو: الميل اليسير_ إلى من صدر منه الظلم دع عنك الظالم نفسه، ثم عقب على دخول النار أنه ليس لهم من دون اللّه تعالى أولياء وأنهم لاينصرون وهو يقتضي الخلود في العذاب وانقطاع الأسباب، فهل يبقى بعد ذلك أي شك وارتياب، فنسأل اللّه تعالى العصمة والسلامة وحسن المرجع والمآب وهو حسبنا ونعم الوكيل.(1/122)
[رد للأقوال المزوّرة على بعض علماء العترة (ع)]
هذا وقد تكلمنا في التحف الفاطمية على طرف من الرد للأقوال المزورة على بعض علماء العترة كالسيد العلامة حميدان بن يحيى عليه السلام، والسيد العلامة سبط الإمامة والزعامة وشرف السلالة من أبناء الوصاية والرسالة الحسين بن الإمام القاسم بن محمد عليهما السلام فإنه نسب إليه في بعض التراجم القول: بأن الخلاف في الأصول لفظي وفي هذا نقض التوحيد والعدل وهدم دليل العقل والنقل، فياسبحان اللّه كيف وهو عالم بني الزهراء والقائم بتأييد حججهم القاطعة الغراء وأقواله بحمدالله معلومة، وقد نقلنا هناك مايكفي، فلينظر فيها إن شاء اللّه تعالى، وقد كذب على أنبياء اللّه ورسله صلوات اللّه عليهم فلأهل بيت النبوة بهم أعظم أسوة بل قد كذب على اللّه عز وعلا سبحانه وتعالى عما يصفون.
وهاهنا أمر كلي وهو أنه إذا لم يكن للمرء في عقائده وأصول تعبداته إحكام أساس وإبرام أمراس حتى يكون على ثبات من دينه ورسوخ في يقينه تجاذبته الأوهام، واختلجته الشكوك، وروعه أدنى قادح، وأفزعه كل خيال لائح فهو لايجزم بتضليل أحد من الفرق لأنه لايعلم أهو أولى أم هم في ذلك بالحق فحاله كما قال:
قعدت كلا الفرجين تحسب أنه .... مولى المخافة خلفها وأمامها
ولهذا ورد عن سيد البشر قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه مالت به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين اللّه على أعظم زوال، ومن أخذ دينه عن التفكر في آلاء اللّه والتدبر لسنتي زالت الرواسي ولم يَزُل )) . انتهى.(1/123)
ولقد اطلعت على تعليق لبعض الواضعين في وقتنا أطنب صاحبه في النهي عن الغيبة حتى خرج به الحال إلى التأويل لفرق الضلال والتكلف للجمع بين صرائح الحق وفضائح الباطل المختلق فجرأه ذلك إلى الاعتراض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما اتفقت عليه الأمة من ذمه للقدرية الذين تأول لهم وعلى كافة الأئمة إذ مباراتهم لهم بالسيف والسنان والقلم واللسان في جميع الأزمان لايحتاج إلى بيان، ثم إن اللّه يقول: ((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ)) [يونس:32]، ((وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)) [المؤمنون:71] ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أخبر بأن أمته ستفترق إلى نيف وسبعين فرقة، كلها هالكة إلا فرقة وكم آيات تتلى وأخبار تملى.
ومن عجيب الزيغ وغريب الخذلان أنه في موضع له آخر شرع في اغتياب بعض الأئمة الذين فرض اللّه طاعتهم على الأمة، ومابلغ به ذلك إلا أن كشف اللّه تعالى قناع تقشفه حيث تنزه عن سب من سب اللّه سبحانه بإضافة القبائح إليه ثم وقع فيمن أوجب اللّه تعالى مودتهم عليه، فأما الأئمة فلم يضرهم من هو أبسط لساناً وأشد أركاناً.
وإن ينبحوا سادات آل محمد .... فهل قمر من نبحة الكلب واجم
وقد كفانا نفسه بجرأته على اللّه تعالى وخوضه فيما لايعلم، ولولا وجوب رفع ماقد يقع على الجاهل به التغرير لكان جديراً أن لايجري بالخوض في هذيانهم قلم ولا تصدير، أطنين أجنحة الذباب تضير؟ ولكن قد ابتلي من هو فوقنا بمن هو دونهم. ومن العجائب _والعجائب جمة_ ماقاله العلامة محمد بن علي الأكوع في مقدمة كتاب كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة مالفظه: وأما مايروى أن أبا بكر قال: "الأئمة من قريش". وأنه حديث وخبر لايصح وإن رواه من رواه.(1/124)
وأقول: هكذا هكذا وإلا فلا! لاهكذا يكون الرد والتكذيب والجحود لسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فبمقتضى كلامه أنه لايقبل وإن تواتر كما هو الواقع أنه متواتر لمن بحث، ثم استشهد بقول إمامهم نشوان المتخبط كالذي يتخبطه الشيطان من المس:
حصرَ الإمامةَ في قريشٍ معشر .... هم باليهود أحق بالإلحاقِ
جهلا كما حصرَ اليهودُ ضلالةً .... أمرَ النبوةِ في بني إسحاقِ
الآبيات التي أقذع فيها على أهل البيت وعلى المهاجرين والأنصار وعلى سائر علماء الأمة كالأئمة الأربعة والمسلمين العاملين بمقتضى الخبر النبوي الأئمة من قريش فلايستنكر بعد أن شبه آل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلماء الإسلام باليهود ما قيل في حقه:
نشوان شيعيٌ إذا أرضيتَهُ…وهو يهودي إذا ماغضبا
ولانبالي أن يسبنا أعداء الدين فلنا أسوة برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأقول رداً عليه:
حصرَ الإمامةَ كالنبوة معشرٌ .... دانوا بخيرة ربنا الخلاقِ
في أحمد وبنيه أربابُ الهدى .... هم صفوة الباري ذوو الميثاقِ
قالوا الأئمةَ من سلالةِ أحمدٍ .... بأدلةٍ كالشمس في الإشراقِ
هذي مقالةُ آلِ بيتِ محمدٍ .... وأئمةِ الإسلامِ ذي الإشفاقِ
وأبى النواصبُ واليهودُ ضلالةً .... ومن اقتدى بهم من المُرَّاقِ
لافي حوالي ولازعطان أو .... فلتان قول الطامع العفاقِ(1/125)