قلنا في ذلك جواب جامع قاطع وهو الذي نطقت به السنة والكتاب وشهدت له أدلة الألباب هو الحكم بلحوق الوعيد بمن ارتكب أي كبيرة من العبيد وحلوله في العذاب الشديد إلا أن يتوب إلى مولاه عن قريب ويأتيه بقلب سليم، وأنه لاينفعه إن كان قد قدم ماقدمه من الصالحات لأنه أضاعه على نفسه بما ارتكب من المحبطات وكان كما شبهه اللّه تعالى بناكثة الغزل بعد القوة وزلت قدمه بعد ثبوتها في تلك الهُوة أعاذنا اللّه تعالى منها، وأن آي الوعد لاتناول إلا من يأته مؤمناً قد عمل الصالحات، وأن الأمن مقصور على من قصره اللّه تعالى عليه بقوله عز قائلا: ((الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) [الأنعام:82]، والدلائل على هذا كله مشرقة المنار متجلية الشموس والأقمار ولنورد طرفاً تأكيداً لما سبق مما فيه إن شاء اللّه تعالى غنية عن الإكثار مستعينين بالله الواحد القهار.
منها: أن آي الوعيد التي هي في مقام الزجر والتهديد ممن لايبدل القول لديه وليس بظلام للعبيد، لو كانت مخصصة بغير التائب وذوي الصغائر من العصيان لكان ذلك نقضاً للحكمة لما فيه من إغرائهم على القبائح، ولسقط وجوب التحفظ المعلوم من الدين ضرورة عما لايرضاه من العصيان والفضائح، وناقض: ((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) [النحل:90] ولينظر الناظر لو قدر التخصيص متصلا عند تلاوة مايشاء من عمومها ويعرضه على ما أراد من منطوقها ومفهومها ليعلم مضادته لقضاء الحكيم ومناقضته لمصدر الوعيد من العزيز العظيم.
ومن المعلوم عند ذوي الأنظار السليمة والأفكار القويمة أن بقاء التكليف لايستقيم مع عدم التخويف، وأن صدور أي إطماع ينافي حكمة الخبير اللطيف.(1/116)


كيف وقد أمر خيرته صلى اللّه عليه وآله وسلم من ذوي العصمة أن يبين خوفه من العذاب من مطلق العصيان مع أنه لايجوز عليه انتهاك أي حرمة وتوعده على القليل بما فيه غاية النكال والنقمة ((إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ)) [الإسراء:75] وقد علم اللّه سبحانه أنه سينظر في وعده ووعيده ذوو الذوق والنظر ويفحص عن تصريحها وتلويحها أرباب الفحص والفِكر، فانظروا هل استثنى اللّه في شيء من آي الوعيد بالخلود في العذاب الشديد غير التائب وصاحب الصغيرة أحداً من العبيد وهو في مقام البيان ((تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)) [النحل:89] ((مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)) [الأنعام:38].
ومنها: أنه قد قص ونص نصوصاً بينة جلية على إحباط أعمال المؤمنين إن ارتكبوا معاصي غير مخرجة من الملة قطعاً، وإذا كانت تحبط أعمالهم بالمن والأذى ورفع الصوت فما بالك بما فوقها من مجاوزة الحدود والاعتداء؟! بل شبههم اللّه تعالى بالخارجين عن الملة بقوله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا)) [البقره:264] إلى قوله: ((وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) [البقره:264] وإذا حبطت أعمالهم دل على تخصيص آي الوعد التي فيها عدم ضياع أعمالهم، وعدم كفران سعيهم وكَتْبِها لهم.(1/117)


هذا إن كان الكلام فيمن قد سبق له ذلك ودل على شمول آي الوعيد لهم ولجميع العصاة بنحو قوله تعالى: ((وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)) [الجن:23] الآية، ((وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ..)) [النساء:14] الآية، إذ ليس الموجب لتخصيصها إلا الوعد على أعمالهم، وقد تبين أنها تبطل وتضمحل، فذلك أعظم دليل على أنهم عصاة مؤاخذون داخلون في ضمن قوله عز وجل: ((وَمَن يَعْصِ اللّهَ..)) الآية، دخولا مقطوعاً به دلالة وإرادة، إذ الكلام في أمثال هذا المقام مرتب على قاعدة أصولية وهي: أن العام في الأصول المقطوع بمتنه مقطوع بدلالته على جميع أفراده. وإرادتها لا احتمال فيه فلايخص إلا بقاطع مثله، لأن الحكيم لايكلفنا بالعلم ولاينصب لنا عليه إلا دليلا ظنياً للزوم التكليف بما لايطاق والله سبحانه يتعالى عنه وقد ذم الظن وقال: ((إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) [يونس:36]، ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) [الإسراء:36] ولايحتمل التأويل بإخراج العلم والظن عن حقيقتهما من التحريف والتبديل إذ هو لغير دليل بل قام الدليل القطعي على قبح الاعتماد على الظن في الأصول قطعاً واتفاقاً بين أهل العدل مع قيام الدليل الشرعي على ذلك، ولأنه الذي يوجبه الوضع كما قرره المحققون.(1/118)


نعم مع أن الوعد معلق على الوصف بالإيمان والعمل الصالح، وقد خرجوا عن الإيمان بعد الكبير من العصيان لقيام الأدلة المحكمة الأساس المبرمة الأمراس على أن الإيمان: الإتيان بالواجبات واجتناب المقبحات من أمثاله قوله عز وجل: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ..)) [الأنفال:2] الخ، ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ..)) [المؤمنون:1] الخ، كما قرر الاستدلال بها أئمة الآل صلوات اللّه عليهم حملة المعقول والمنقول منهم نجم آل الرسول وشيخ أسباط الوصي والبتول أبو محمد القاسم بن إبراهيم عليه وعلى سلفه وخلفه أفضل الصلاة والتسليم.
وقد اعترض السيد محمد بن إسماعيل الأمير في الدراية استدلال ابن الإمام في شرح الغاية بهذه الآية وغيرها.
وقد حررت عليه مافيه إن شاء اللّه تعالى الكفاية لأولي الحجا والهداية امتثالا لقوله تعالى: ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:175]، فمن أراد مراجعتها فهي مفردة مستقلة هنالك في ذلك المقام وقد وسمناها: بالفلق المنير بالبرهان في الرد لما أورده ابن الأمير على حقيقة الإيمان. وعسى اللّه تعالى أن ينفع به ويجعله من السعي المبرور والعمل المشكور، فقد وقع إبلاغ الجد وبذل الجهد لأن هذا السيد احتفل في النقض لهذا الأصل العظيم الشأن القويم البنيان بغاية الإمكان مع تمكنه من الإيرادات وتصريف العبارات وتمويه الإشكالات ومثله أعظم خطراً وأشد ضرراً على من لم يكن ذا قدم ثابت وملكة راسخة.(1/119)


نعم وإذا خرجوا عنه بطل ماعُلق عليه وعُلل به من الوعد بالجنان، وأما محاولة الإخراج والتخصيص بتقدير مالم يدل عليه دليل ولاينتهج إليه سبيل فإنه بلا ريب تحريف وتبديل لاسيما بجعل الخطاب على غير ماعلق عليه أو مقترناً بمالم ينسق إليه حتى يصير غير متلائم نظمه ولامتناسب حكمه، فحاشا كلام الحكيم الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، أو بأن يصير إلى القول بالخروج من النار الذي قد حكاه وأبطله العزيز الجبار، وحكم جل جلاله على كل من كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته على رغم آناف اليهود وغيرهم من أهل الزيغ والعنود.
ومنها: أنه قد علم من دين الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ضرورة لحوق الوعيد بأهل الإيمان المرتكبين بعده بما لايخرج عن الملة من العصيان بإقامته عليه وآله الصلاة والسلام وإقامة أهل الإسلام عليهم الحدود، وإيجاب قتال الناكثين منهم وعداوتهم وطردهم إن أصروا على العنود، ومعلوم أن في ذلك غاية الإهانة ونهاية الذلة والاستكانة، وأنه لم يبق لهم عند اللّه تعالى ولاعند رسوله أي مكانة، ولو كان لهم شيء ينفعهم في الآخرة لنفعهم في الدنيا التي هي دار الإمهال والإملاء، ولكانوا مهانين ملعونين فاسقين باغين محاربين كما ورد في القرآن مستحقين دار المتقين معظمين مكرمين لما تقدم لهم من الإيمان، وفي ذلك من التناقض والإحالة مالايخفى على ذوي التمييز فضلا عن ذوي العرفان.(1/120)

24 / 83
ع
En
A+
A-