فمن أراد السلوك في منهاجهم والعبور في طريقتهم فليطالع مؤلفاتهم، وأما من تنكب عن سواء السبيل وعرَّج على الشبهة ورفض الدليل، فإنه لايزال طالباً للتأويل ومجتهداً في التحويل والتبديل، فكيف تنقلب وقد حققت في حاشيتك على شرح الثلاثين المسألة: بأن صاحب الكبيرة يخلد في العذاب الدائم، ونقلت نيفاً على عشرين حديثاً تقضي بخلود صاحب الكبيرة، وعندك أنها من أحسن الطرق. ولكنك قد ملت إلى كتب أهل البدعة الذين يطلبون لهم المعاذير ولايبالون بمايُقْدِمون عليه من المناكير وقد سبقك من أبطل الزيادة الثابتة في قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (من قال لاإله إلا اللّه دخل الجنة) الثابتة في رواية زيد بن أرقم، ورجح الأخبار الخالية عن تلك الزيادة، وقال معتمداً على ماصححه أهل سنته من أنا نحمل الأحاديث على أنهم داخلون تحت المشيئة، وقلت: إن هذا التلفيق يصلح تفسيراً لقوله تعالى: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) ولو رجعت إلى هداتك الذين أمرك اللّه بالرجوع إليهم والأخذ عنهم لاستبنت المنهج القويم وهديت الصراط المستقيم، وياسبحان اللّه كأن هذه الزيادة لم ترو إلا من طريق زيد بن أرقم وهي أشهر من نار على علم على أنه قد ثبت بالدليل القطعي القرآني والنبوي مايبطل حديثكم الذي تروونه عن أبي ذر وغيره، وحاشا أبا ذر أن يزوِّر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو ممن لم تأخذه في اللّه لومة لائم.
كذلك قد سبق في صلاة الجماعة نقلا عن المقبلي في أن المرجئة الذين يقولون لاوعيد على أهل الصلاة ويؤخرونهم عن الوعيد رأساً، وقد كفانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الجواب في الرد عليكم وعلى أهل سنتكم، وأما المقبلي فقد سل الإمام المنصور بالله محمد بن عبداللّه الوزير رضي اللّه عنه سيف دليله عليه فكفانا من أن نرد عليه. وكفى اللّه المؤمنين القتال، وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلامهم.(1/111)
[إثبات الوعيد والرد على المرجئة]
هذا واعلم أنه لما ساق البحث إلى الكلام في هذا الأصل الكبير والمطلب المهم الخطير ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ)) [الحج:8] رأيت إيراد طرف من التبيين مما يقطع أعذار المتمنين ويدحض شبهة المتعللين حسبما يليق بهذا المقام ومن اللّه تعالى نستمد الإعانة والعصمة في الإقدام والإحجام.
فأقول وبالله تعالى أصول: الأمر كما قال بعض أئمة الآل صلوات اللّه عليهم أنها لم تقف الحشوية والمرجئة عند حد ولا استقرت في المذهب على معتقد، فمرة يقولون: إن العفو والرحمة واسعة، وإن المغفرة شاملة جامعة، وإن مايدينون به من الرجاء وليس بالإرجاء، وإن العبد تحت المشيئة، وأخرى إنه لاوعيد على أهل القبلة رأساً، وتارة يقولون: إن لاإله إلا اللّه كاف، وأخرى إنهم لايدخلون النار بسبب شفاعة أو نحوها، ومرة إنهم يدخلون النار ثم يخرجون منها، وأخرى إن الإيمان قول بلا عمل. وكل هذا خلاف ماجاء به القرآن وسنة سيد ولد عدنان الجامعة غير المفرقة، ولهم روايات لفقوها وترهات اختلقوها، فما خالف كتاب اللّه وسنة رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم مما افتراه أهل البدع من الوضع فهو مطرود عن مقاعد السمع ((وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ
الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)) [البقره:167].(1/112)
فأما قولهم: إن العفو والرحمة الخ. فنقول: هذا هو محض التمني والإرجاء كما حققه نجوم الهدى ورجوم العدى وأعلام الاقتداء وعليه قوله عز وجل: ((وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)) [التوبه:106] وأما القطع بخلف الوعيد، فهو التكذيب بلا مراء، وأما الرجاء فقد بين اللّه أهله ومحله بمثل قوله تعالى: ((فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) [الكهف:110]، وقوله عز وجل: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [البقره:218] ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب:21]. وقال اللّه تعالى: ((إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)) [الأعراف:56]، ((وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:156]، فأما من ارتكب الجرايم وأمن من العظايم فقد أحل الرجاء في غير محله ووضعه لغير أهله ((وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ)) [الأعراف:202]، ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ(1/113)
فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ(29))) [ق:20-29]. وقال تعالى: ((يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) [النازعات:36-41]، وهذا عام في كل من طغى فمن حرفه فقد بغى، وأما إنكار الوعيد بالجملة على أهل الصلاة والقبلة فهو رد لصريح الكتاب، وإنكار لما علم من الدين ضرورة بلا شك ولاارتياب ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ)) [الأنعام:21].
وماذا يصنعون بالآيات الخاصات والعامات المصدرات بيا أيها الذين آمنوا نحو آية الربا وآية الفرار من الزحف وآية المواريث والآية القاطعة لأماني المتمنين النازلة في شأن الكافرين والمسلمين وهي: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) [النساء:123] ومن بلغت مباهتته إلى هذا الحال لايجاب عليه إلا بما قال ذو الجلال والإكرام: ((وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {7} يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) [الجاثيه:6]
((تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)) [الجاثيه:5].(1/114)
وقد دخل الجواب عن قولهم: إن لاإله إلاالله كاف، وإن الإيمان قول بلا عمل. فيما سلف وفيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى وكذلك القطع بعدم دخولهم النار أو دخولهم وخروجهم والتردد في ذلك، وأما الشفاعة فإن اللّه جل وعلا يقول: ((مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)) [غافر:18]، ((وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)) [الأنبياء:28]، ((أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ)) [الزمر:19]. ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ)) [الإنفطار:13].
وقد أغنى الجواب جواب رب الأرباب بما أجاب به على أهل الكتاب: ((وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً..)) [البقره:80] الخ، وأما التخصيص لآي الوعيد بآي المشيئة أو آي الوعد فنقول: أما آي المشيئة فهي مجملة ضرورة أنها لم يتبين فيها من المراد بالإخراج فيجب رد المجمل إلى المبين والمتشابه إلى المحكم، وهذا واضح المنهاج، وقد تبين ذلك في كتابه جل وعلا وعلى لسان رسوله المصطفى: ((لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)) [الأنفال:42]، ((مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)) [الأنعام:38].
وأما التخصيص للوعيد بالوعد واحتمال إخراج بعض من شملت من العبيد إما لكونه من أهل الصلاة أو لأنه قد سلف له الوعد بماعمل من الصالحات فيكون مخصوصاً لتلك السابقات، أو بغير ذلك مما يتعلق به أهل الجهالات من الترهات.
ويطمئن إليها من له غرض .... في مسلك الغي أو في قلبه مرض(1/115)