نعم واعلم ثبتنا اللّه تعالى وإياك على صراطه المستقيم ومنهاجه القويم، أن عدم النزول عند حكم اللّه تعالى في هذا الشأن والامتثال لأوامره بالجنان والأركان أصل كل فتنة وسبب كل محنة وعدو اللّه وعدونا الشيطان أول من سخط أمر اللّه ورد قضاءه، ثم تبعه كل من نفخ في أنفه واقتاد له وألقى إليه زمامه وملك حله وإبرامه، فأنزل اللّه به سوء النقمة وسلب مالديه من النعمة، وأحل عليه اللعنة، ولم يغن عنه ماتعلل به من الأعذار، ولم ينفعه ماسلف له من السوابق الكبار، وقد عبداللّه ستة آلاف سنة لايدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة كما قال الوصي صلوات اللّه عليه، فبطل ذلك كله واضمحل دقُّة وجُلة باستكباره عن امتثال أمر واحد.
قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: فمن ذا بعد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته كلا ماكان اللّه ليدخل الجنة بشراً بأمر _أي مع أمر_ أخرج به منها ملكاً وإن حكم اللّه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، ومابين اللّه وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حماً حرمه على العالمين.
هذا وليس المقصود بما أثبته اللّه لأهل بيت نبيئه صلى اللّه عليه وآله وسلم من لم يكونوا من المعاصرين ولم ينتظموا في سلك الحاضرين، كلا فإنهم صفوة اللّه في كل أوان وحملة حجته في كل زمان، كما أفادته نصوص السنة ومحكم القرآن: ((إني تارك فيكم..)) ، ((كلما أفل نجم طلع نجم..)) ، ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين)) فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على اللّه، ((يحمل هذا العلم من كل خلف من أهل بيتي عدوله ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)) إلى مالايحصى كثرة كتاباً وسنة.(1/101)


وقد مضت سنة الأولين في سالف الأمم من عصيان أكثر الخلق للأنبياء وبغيهم على الأوصياء وحسدهم لذراري الأنبياء، وعدم انقيادهم لحجج اللّه ووقوفهم عند حدود اللّه، وقد حكى اللّه عنهم ذلك ووبخهم عز وجل بمثل قوله تعالى: ((أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ)) [النساء:45] فسلكت هذه الأمة تلك المسالك، وهلكت في مهاوى تلك المهالك.
قال الإمام السابق الحسن بن علي الأطروش صلوات اللّه عليه:
وأن أمتنا أبدت عداوتنا .... أن خصنا من عطاء اللّه تفضيل
إذا ذكرنا بفضل أو بعارفة .... صاروا كأنهم من غيظهم حول
حقها أخطأت ورشدها أضلت، وكيف لا وقد فارقت خيرة اللّه من سلالة إسماعيل وحملة حجته من ذوابة إبراهيم الخليل، من كللهم اللّه بأكاليل النبوة في الابتداء وسربلهم بسرابيل الإمامة في الانتهاء. واعلم أن من أعظم مايحصل به التغرير والتزوير ويكون منه التأثير الكبير تعمية من يتلبس بالدين ويوهم أنه من أهل التقوى واليقين والتمسك بالأئمة الهادين، قال الوصي صلوات اللّه عليه: وآخر قد سمى نفسه عالماً وليس بعالم، فاقتبص جهائل من جهال، وأضاليل من ضلال، ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور وقول زور، وقد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه، يؤمن من العظايم ويهوِّن كبير الجرائم، يقول أقف عند الشبهات وفيها وقع، ويقول أعتزل البدع وفيها اضطجع. انتهى.
ولقد نزغت في زماننا هذا نوازع الجهالات، وبزغت فيه بوازغ الضلالات، ولم تزل كذلك في كل زمان إلا أنها كلما هدرت شقاشق الشيطان قطعتها بواتر قرناء القرآن، ونحن أصبحنا في دهر كما قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: القائل بالحق فيه قليل، واللسان عن الصدق كليل.
ولله السيد العلامة الهادي بن إبراهيم الوزير حيث يقول:(1/102)


أقاويل غي في الزمان نواجم .... وأوهام جهل بالضلال هواجم
ومسترق سمعاً لآل محمد .... فأين كرام بالنجوم رواجم
ومستوقد ناراً لحرب علومهم .... فأين البحار الزاخرات الخضارم
ومعترض فيهم بمخراق لاعب .... فأين السيوف الباترات الصوارم
ومجتهد في ذم قوم أكارم .... فأين الأباة السابقون الأكارم
ومنتهش لحماً لهم وهو ثعلب .... فأين الأسود الخادرات الضراغم
[الرد على الجنداري بنسبته الإرجاء إلى العترة (ع)]
فما أشبه الليلة بالبارحة والقضية الغادية بالرائحة، من ذلك أني وقفت على الكتاب المسمى تراجم الرجال المذكورين في شرح الأزهار المنسوب إلى القاضي أحمد الجنداري وإذا فيه تقولات على بعض العترة المطهرة صلوات اللّه عليهم.
منها: أنه عزا الإرجاء إلى بعض الأئمة هكذا إجمالا وبعضهم عينه تفصيلا، فحينئذ تعين الكشف عن الكذب لئلا يغتربه مغرب.
فنقول: أما الجواب عن حكايته المجملة فالمعلوم من دين أهل بيت الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم القول بالعدل والتوحيد وصدق الوعد والوعيد ونفي الإرجاء المباين للرجا، وأنهم يحكمون بما حكم اللّه به نحو قوله عز وجل في محكم كتابه: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) [النساء:123] ونحو قوله تعالى في التهديد بالوعيد: ((مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)) [ق:29] وسواهما من حجج العقل والنقل.
وأما الجواب عمن عينهم فمنهم السيد الإمام علم الأعلام في العترة الكرام محيي علوم الآل وماحي رسوم الضلال أبو عبداللّه حميدان بن يحيى بن حميدان بن القاسم بن الحسن بن إبراهيم بن سليمان بن الإمام القاسم بن علي بن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فمن صريح كلامه وصحيح إعلامه قوله عليه السلام:(1/103)


والمسألة الخامسة: إخلاف الوعد والوعيد، وذلك لأن المرجئة يزعمون أن اللّه يخلف وعيده لأهل النار بالخلود فيها، واحتجوا على ذلك من المتشابه والشبه مما لاحجة لهم فيه إلى أن قال: والجواب: أن هذه الآيات وما أشبهها من جملة المتشابه والمجمل، قال: وتحكيم المحكم المبين على المتشابه واجب لايجوز خلافه. ثم أورد طرفاً من الرد عليهم، فهذا ماهو معلوم من دينه ينطق بافترائه ومينه، ويفتق على ناقله مايرتق بشماله ويمينه. والإرجاء يحصل بتجويز إخلاف الوعيد سواء كان بشفاعة أو غيرها إذ مآل ذلك تأخير الأعمال، والاتكال على الآمال، وعدم الوثوق بما أخبر به ذو الجلال، لأن وعيده إخبار بما يؤول إليه الحال، وليس كلامنا فيمن أنكر الوعيد على أهل القبلة لأنه إنما حكى عن هؤلاء الأئمة تجويز الشفاعة للفاسق فقد أثبتوا الوعيد واستحقاق العذاب.
ومن كلام هذا السيد الإمام قوله جواباً على بعض شبه المرجئة وهي قولهم: إنه يحسن إخلاف الوعيد في الشاهد. والجواب: أن ذلك لايحسن إلا لأجل قرائن لايجوز إضافتها إلى اللّه تعالى نحو البداء والندم.. الخ كلامه عليه السلام وأقواله ومؤلفاته معلومة عند الأمة ناطقة ساطعة بالحق على الخلق، لم تزل الأئمة تهتدي بنورها وتعزي ماتدين به إلى نيرات شموسها وبدورها.
هذا وممن رماهم بالإرجاء لزعمه أنهم يجوزون الشفاعة للفاسق السيد الإمام السابق مجدد المآثر ومؤيد الدين الداثر البدر المنير والبحر الغزير الهادي بن إبراهيم الوزير عليه السلام، فمن عقد كلامه الذي لايحل حل إبرامه قوله في قصيدته في أصول الدين المسماة درة الغواص التي شرحها هو وشرحها السيد العلامة عبدالكريم بن عبداللّه أبو طالب رضي اللّه عنه:
ومن مات من بعد الوعيد بكفره .... فإن جزاء النار أعظمه تبري
كذاك من الفساق من مات عاصياً .... فإن له نارا موججة الجمر
يخلده الباري بها في عذابها .... وما إن له في النار يكشف من ضر
بذلك جاء النص وهو مؤيد .... بتحقيق برهان من الكلم الغر
إلى أن قال:
ومذهبنا أن الشفاعة في غد .... لها يتلقى المؤمنون ضحى الحشر
وليست لذي فسق وإن قال قائل .... به فهو مردود بنص من الذكر(1/104)


فهذه صرائح أقواله تنادي برد ذلك النقل وإبطاله، وليس لقائل أن يقول يحمل على أن له قولا آخر. لأنا نقول له: أين أنت ياوسنان أصاح أم سكران، أتدري أنك في أصل من أصول الأديان، التي كلف اللّه عباده فيها الوقوف على حقيقة العرفان، فمثل هذا الإمام لايكون له فيها قولان، إذ يكون قد صدر أحدهما عن غير برهان، إذ العلمان لايتناقضان، وحاشاه وهو قمر الهداية الزاهر، وبحر الدراية الزاخر، وهذا الكتاب أقل من أن يوثق به في هذا الباب أو يصدق في قوله على حملة الكتاب مع أنه لايجوز الإقدام في هذا المقام إلا بطريق شرعية وحجة قطعية وذلك ثابت معقولا ومنقولا ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الإسراء:36].
ولقد أضر انحراف هذا الشيخ بكثير ممن أخذ عنه واغتر به فلقد كان الإمام المنصور محمد بن يحيى حميد الدين يقول لولده الإمام المتوكل حين يرى منه بعض المخالفات: تجندرت يا يحيى. لأنه من مشائخه. ولقد حَوَّل أكثر أهل الأهنوم وغيرهم إلى أقوال من يتسمون بالسنية.
[مذاكرة في الإرجاء]
وقد جرت مذاكرة بيني وبين الوالد العلامة محمد بن حسن الوادعي ناظرة الشام المتوفى سنة 1369هـ عن 77 سنة وكان ذلك بحصن السنارة فتمثل بقول الشاعر:ـ
قال المنجم والطبيب كلاهما .... لن يبعث الثقلان قلت: اليكما
إن صح قولكما فليس بضائري .... أو صح قولي فالوبال عليكما
فأجبت بما معناه:ـ ونحن نقول معشر الوعيديه:ـ
إن صح قولكمُ فليس يضرنا .... أو صح قولي فالوبال عليكمُ
فأجاب بقول العلامة هاشم بن يحيى الشامي:ـ
على رغم أنف للوعيدي ابتني .... بتوحيدك اللهم في الخلد مسكنا
ومن يتأول من يشاءُ فقل له .... إذا كنت بواباً عليها فردنا(1/105)

21 / 83
ع
En
A+
A-