عدنا إلى كلام الإمام عليه السلام قال:
[2] وما أمكن عرضه عليه جملة، وهذا الصحيح صحته مثل بيانات المجملات الواجبة ونحو ذلك.
والقسم الثالث: ماعارض الكتاب من كل وجه مع كونه آحادياً.
قلت: قوله مع كونه آحادياً لأنه لايتصور ذلك في المتواتر والمتلقى بالقبول كما ذلك معلوم.
قال عليه السلام: وهذا لا إشكال في رده والحكم بوضعه.
والقسم الرابع: ما أمكن الجمع بينه وبين الكتاب بالتعميم والتخصيص والإطلاق والتقييد.
[بحث في جواز تخصيص الكتاب والمتواتر بالآحاد ونحوهما كالقياس]
قلت: ومقصد الإمام عليه السلام أنه يُجرى في كل بحسبه في العلميات والعمليات فيخصص العموم في الأول بالعلمي، وفي الثاني بالعلمي والظني، لأن العموم في العمليات وإن كان قطعي المتن فهو ظني الدلالة لاحتماله، وإنما تطرق إليه الاحتمال لأن الظن يكفي في الأعمال، وهذا إنما هو على مقتضى القول بجواز تخصيص الكتاب والمتواتر بالآحاد ونحوهما كالقياس، وستقف على المختار قريباً إن شاء اللّه تعالى. فأما التخصيص بها في العلميات فلايصح اتفاقاً بين العترة ومن وافقهم للتعبد فيها بالاعتقاد وبقاؤها على الأصل من كون العلم فيها هو المراد ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) ((إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) ولم يبق تحت النهي إلا مسائل الأصول وإلا عريت عن الفائدة وذلك خلاف المعقول والمنقول، فكيف ينهى عن اتباع الظن ويذمه لنا ثم يتعبدنا به، تعالى اللّه عن هذا المقول.(1/6)


وللإمام رضوان اللّه عليه تحقيق في هذا المقام يستشفى به من الأُوام أورده في جواباته على علماء ضحيان وفي أثناء الدعوة المسماة: بالموعظة الحسنة. نعم والتحقيق أن العلم هو المطلوب في الأصول والفروع كما دلت عليه أدلة المعقول والمسموع، وقد خصصت بعدم طلب العلم في بعض المسائل العملية التي لم يقم عليها قاطع لما علم أن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يبعث بالآحاد في تبليغها وعمل الصحابة بها مستندين إليها وفيهم هادي الأمة ووليها والقائم بما قام به نبيها باب مدينة العلم من هو مع الحق والقرآن والحق والقرآن معه، فخصص بتلك العمليات نحو قوله تعالى: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) وأما تأويل العلم والظن وحملهما على خلاف حقيقتهما لغير دليل، فإنه بلا ريب تحريف وتبديل والعقل يرده، والاتفاق بيننا وبينهم في العلميات يحجه.
هذا ومن أعطى النظرحقه ولم يملك التعصب والتقليد رقه، فلايتحقق لديه أن الشارع جعل الظن مناطاً لشيء من الأحكام ولامعتمداً في حل ولاإبرام، والأصل بقاؤه على عمومه ((إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) إذ لاموجب للإخراج وليس التعبد بالآحاد ونحوها يوجب الاعتماد عليه وإن كان الظن ملازماً لها في الأغلب، بل قام الدليل القاطع على العمل بها في العمليات سواء حصل الظن أم لا، ألا ترى أنه لايقبل خبر فاسق التصريح وكافره إجماعاً ولا التأويل على الحق من كون عدم العدالة سلب أهلية وإن أفاد الظن، ويجب قبول خبر العدل الضابط وإن لم يحصل الظن وإن كان بعيداً و المقصود تصوير الانفكاك، وإلا فلو كان بينهما تلازم ذاتي لم يوجب أن التعويل على الظن بل على ذلك المظنون، وبينهما فرق يعرفه العالمون.
وانظر بثاقب نظرك وصافي فكرك هل سمعت كتاب اللّه ذكر الظن إلا بالنعي على أهله والذم، وهل طلب غير اليقين والعلم ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)).(1/7)


فإن قيل: فإن الظن مأخوذ به في أبواب لايستند فيها إلا إلى أمارات كمواضع من القياس وتقدير أروش الجنايات وتقويم المتلفات.
قيل: يمكن الجواب أن الشارع علق الأحكام فيها على حصول الأمارات لا لأجل الظن، سلمنا، فمع قيام الدليل القاطع أن الأحكام معلقة فيها على الظن فتخص هي لاغيرها، ويبقى ماعداها على مقتضى دليل العموم، فتأمل.
رجعنا إلى كلام الإمام، قال عليه السلام: وهذا الصحيح الأخذ به عرضاً على قوله تعالى: ((لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) والتعميم والتخصيص نوع من البيان اللغوي.
حتى قال: والقسم الخامس: مالايمكن عرضه ولايوجد في الكتاب العزيز مايبطله ولامايصحه.
قلت: أراد الإمام عليه السلام أنه لم يوافق لأن الموافقة: المماثلة والمشاكلة، ولم يخالف لأن المخالفة: المعارضة والمناقضة، ومن لم يحسن النظر في معنى الخبر الشريف توهم حصر مافي السنة على موافقة الكتاب أو مخالفته ومن هنا أُتي، لأنه حمل الموافقة على المماثلة ولا إشكال، وحمل المخالفة على المغايرة، فلم يبق له عنده في السنة ثمرة، لأنه إن وافق _أي أتى بمثل الحكم_ الذي في الكتاب فليس إلا مؤكداً، وإن خالف _أي لم يأت بمثله_ كان مردوداً، ولزم على كلامه هذا أن لاتفيد السنة حكماً مؤسسا.
وقد أزال الإمام صلوات اللّه عليه ماكان ملتبساً بحجج مشرقة الصباح مسفرة المصباح. قال عليه السلام: وهذا الصحيح قبوله لقوله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)) وهو نوع من العرض الجملي، ولقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( أعطيت الكتاب ومثليه )). ولقوله تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)) إلى غير ذلك.. الخ كلامه عليه السلام.(1/8)


[الكلام على خبر ((وما لم يوافقه فليس مني))]
فإن قيل: قد ورد: (( ماروي عني فأعرضوه على كتاب اللّه فماوافقه فهو مني ومالم يوافقه فليس مني )) فإذا حملت الموافقة على المماثلة لزم أ ن لايقبل شيء من السنة إلا أن يكون مثله في الكتاب، وهذا هو القول الأول الذي حكاه الإمام واحتج على سقوطه بأن بعض الأحكام أخذت من السنة فقط.
قيل: الخبر الأول أشهر والأخذ به هو الأظهر، وحمل هذا الخبر على ظاهره يؤدي إلى إهدار أكثر السنة. وقد قال تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)) ولم يفصل الدليل فوجب العدول إلى التأويل، والجمع بينهما ممكن على أقرب الوجوه.
فنقول: يحمل قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ومالم يوافقه فليس مني)) على التجوز بعدم الموافقة عن المخالفة، ولك في توجيه هذا المجاز وجهان:
أحدهما: أن يكون من المشاكلة، وهو أنه لما تقدم قوله: فما وافقه.. الخ. شاكله بقوله: ومالم يوافقه. والعلاقة بين عدم الموافقة والمخالفة الاطلاق والتقييد، لأن عدم الموافقة يصدق بالمغايرة مطلقاً سواء كان ثم مباينة ومعارضة أم لا، والمخالفة لاتصدق إلا بالمغايرة مع المباينة والمعارضة.
وثانيهما: أن يكون من المجاز المرسل من أول وهلة، والعلاقة مابينهما من الإطلاق والتقييد. فهذان طريقان مسلوكان في اللسان مأهولان عند أهل البيان، وإن رمت النظر في إعمال الخبر على مقتضى قواعد الأصول فلك أن تقول قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ومالم يوافقه فليس مني )) مطلق لأنه صادق مع المصادمة وعدمها وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( وماخالفه )) مقيد لأنه لايصدق إلا مع المصادمة، فيحمل المطلق على المقيد، وكذا ماورد من هذا الباب فإنه من نسج ذلك الجلباب.(1/9)


[الكلام في الناسخ من السنة لحكم الكتاب]
فإن قيل: فماذا يقال في الناسخ من السنة لحكم الكتاب فإنه مخالف له في الظاهر كما قرره في مباحث الأصول أئمتنا عليهم السلام؟
قيل: كلما في الكتاب قطعي المتن والدلالة في الأصول والفروع على الصحيح، وقد علم أنه لاينسخ القطعي إلا بمثله، فإن تواتر مثلا خبر ناسخ لحكم الكتاب أفاد العلم، وما أفاد العلم فمحال أن يكون مكذوباً، فيجب حمل قول الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم على ماخالفه من الآحاد، وقد أفاده الإمام بمفهوم الصفة حيث قال: وإن خالفت السنة الآحادية ردت.
نعم وفي الكتاب مالايجوز نسخه على أن النسخ ليس بمخالفة على الحقيقة، وإنما هو بيان لانتهاء الحكمة في بقاء الحكم، بلى هو مخالف في الظاهر إذ لاطريق لنا إلى الانتهاء إلا بإعلام شرعي، ومع عدم العلم لايكون بياناً، ودليل بقائه مقطوع به، ودليل انتهائه مظنون، والمظنون لايقاوم المقطوع، وهذا هو المدرك الشرعي في عدم نسخ الظني للقطعي. وإنما قلنا: فإن تواتر مثلا.. الخ. لأنه لم يثبت عندنا نسخ السنة للكتاب وهو المروي عن الإمام القاسم بن إبراهيم وولده محمد بن القاسم وحفيده الإمام الهادي إلى الحق والإمام الناصر لدين اللّه الحسن بن علي الحسيني وهو ظاهر رواية الإمام عن الإمام الأعظم زيد بن علي صلوات اللّه عليهم.
وهذا الخبر حجة قائمة ومحجة لازمة على عدم وقوعه لما أسلفنا لك من أن النسخ ظاهره المخالفة، وقد قال صلى اللّه عليهوآله وسلم: (( وماخالفه فليس مني ولم أقله )).(1/10)

2 / 83
ع
En
A+
A-