[ادِّعاء صاحب الرسالة المخالفة للسلف، وجواب المؤلف ـ أيده الله تعالى عليه]
قال: واعلم أنَّ بين السلف، وبين هؤلاء ما بين المشرق والمغرب، وأنَّهم على شيء، والسلف على شيء.
راحت مشرقة ورحت مغربا .... شتان بين مشرق ومغرب
عن أم الدرداء قالت: دخل علي أبو الدرداء مُغْضَبَاً، فقلت: مالك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم شيئاً من أمر محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلا أنهم يصلون جميعاً.
وقال الزهري: دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي فقلت له: مايبكيك؟ فقال: ما أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت، وفي لفظ: ما كنت أعرف شيئاً في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلاَّ قد أنكرته اليوم.
وقال الحسن البصري: سأل رجل أبا الدرداء فقال: رحمك الله لو أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بين أظهرنا هل كان ينكر شيئاً مما نحن عليه؟ فغضب واشتد غضبه وقال: وهل كان يعرف شيئاً مما أنتم عليه؟
وقال المبارك بن فضالة: صلى الحسن الجمعة وجلس فبكى فقيل له: مايبكيك يا أبا سعيد. فقال: تلومونني على البكاء ولو أن رجلا من المهاجرين اطَّلَعَ من باب مسجدكم ماعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنتم اليوم عليه إلاَّ قبلتكم هذه، وهذه هي الفتنة العظمى.
وعن ابن إسحاق الجعفري قال: كان عبدالله بن الحسن ـ رضي الله عنه ـ يُكثر الجلوس إلى ربيعة، قال: فتذاكروا يوماً السنن، فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا، فقال عبدالله: أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام فهم الحجة على السنة. فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء. نعم فالواجب هدم ذلك كله ومحو أثره كما أمر النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عليَّاً ـ رضي الله عنه ـ بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض.
الجواب: هاهنا أعظم العجب منك أيها المترسل.(1/91)
[افتراء صاحب الرسالة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والجواب عليه]
قولك: أمر النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ علياً ـ رضي الله عنه ـ بهدم القبور.
الجواب: لم يرد هذا اللفظ في أي رواية ولا للهدم ذكر في أي خبر إنما هو من صريح الافتراء والزور، وقولك: وتسويتها بالأرض. زيادة بالأرض من الكيس ليتم التغرير والتلبيس، وليس لها في الخبر أي أثر إنما هي من محض الكذب لتسوية المذهب، فحسبنا الله ونعم الوكيل، ومع هذا فإنك أولاً احتججت بفعل السلف وشنعت على مخالفتهم وجعلت البعد بينهم وبين هؤلاء مابين المشرق والمغرب، ثم حكيت بعد ذلك الآثار الدالة على حصول التغيير والتبديل في عهد السلف من الصحابة والتابعين، فليت شعري من تريد بالسلف غير الذين ذكرت أنها حدثت في أعصارهم مبتدعات الأضاليل، فكيف تشنع على هؤلاء بمخالفة الضالين وتجعلهم فيما هم عليه مبتدعين وعن الحق مائلين؟ ثم بعد هذا كله فليس لك في جميع ما أوردته مأخذ ولامتمسك، فأين أنت من محل النزاع؟ ومانسبته إلى من رميتهم به في المخالفة والابتداع؟ ولعمر الله إنَّ هذا مِمَّا تمجه الأسماع، وتنفر عنه الطباع، ويظهر بهذا وغيره أنك تتكلم وتصول، وأنت لاتدري ماتقول، وكأنك تنقل ماوجدت بغير تدبر ولاروية، وتهذي بما أوردتَ عن فِكْرٍ ردي، ونزغات شيطانية، وخيالات أشعبية، وتروم بذلك تضليل خلاصة الأمة المحمدية من العترة الزكية، وشيعتهم الزيدية وما أحقك بقوله:
يروي أحاديث ويروي نقضاً .... مُخالفاً بعضَ الحديث بعضا
وبقول آخر:
ليس يدرون أنهم ليس يدرون .... بل الجهل عمهم توريثا
وتسموا أهل الحديث وهاهمْ .... لا يكادون يفقهون حديثا(1/92)
[مخالفة سلف صاحب الرسالة لأهل البيت عليهم السلام]
ولو أمعنت النظر وأجلت الفكر لعلمت أن التغيير والتبديل لم يكن بدؤه إلا من مخالفة سلفك الذين رمت الاحتجاج بهم لآل محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ المأمور بالتمسك بهم ولزوم سفينتهم كما وقع من الناكثين والقاسطين والمارقين ومن حذا حذوهم من علماء السوء المضلين وكرع من آجن ضلالتهم الردية وبدع أشياعهم الناصبية وسائر الفرق الغوية.
[حكم صاحب الرسالة بهدم القبور، ومحو أثرها، وجواب المؤلف ـ أيده الله تعالى ـ عليه]
وأما قولك: فالواجب هدم ذلك كله ومحو أثره.. الخ.
فنقول: هذا حكم صادر عن غير دلالة واضحة ولا أمارة لائحة، فلم يرد في الأخبار التي أوردتها ولاغيرها ماتوهمته من محو آثارها وتسويتها بالأرض أصلا، وقد تقدم الجواب على ما أوردته من الشبه في ذلك، فالعجب من نسبة الأحكام إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ التي لَم يقل بها، ولَم يدل عليها دليلٌ ولا أمارةٌ، وقد قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)).
[تشبيه صاحب الرسالة المساجد المبينية على القبور بمسجد ضرار، وادِّعاؤه أنَّها أولَى بالهدم منه]
قال: وقد أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بهدم مسجد الضرار، ففي هذا دليل على هدم ماهو أعظم فساداً منه كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور يجب هدمها كلها لأنها أسست على معصية الرسول لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم، فبناءٌ أُسس على معصيته ومخالفته فبناء غير محترم فهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعاً، وكذلك يجب إزالة كل سراج على قبر وطفيه، فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ... الخ.(1/93)
الجواب: نقول سبحان الله من هذا الاستدلال الذي هو بمعزل عن التحقيق والاعتدال، كيف يسوى بين المشاهد المقدسة التي منها مشهد الرسول الأمين ـ صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين ـ الذي قال فيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((مابين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)) ومشاهد عترته التي هي على التقوى مؤسسة التي أجمع على احترامها ومن فيها، وقد شرع الله تعالى على لسان رسوله زيارتها والتلاوة والدعاء عندها لأهلها وللزائر ولسائر المسلمين كما تقدم الاحتجاج على ذلك فيما أوردته وغيره وبين مسجد الضرار الذي أسس على شفا جرف هار واتخذ ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، لقد ذهب بك التجاري كل مذهب، وجمعت بين المتناقضات في ذلك المطلب، فكان الأحق أن تقيسها على بيت الله الحرام بجامع كونها من شعائر الإسلام، وما قصد به إحياء طاعة ذي الجلال والإكرام، وقد تقدم الكلام في اتخاذ المساجد عليها وما المراد به، وتقدم الكلام أيضاً في بناء القباب والاحتجاج عليها فلا وجه لإعادته، وإذا كانت مشروعة كما قدمنا فلا وجه لهدمها.
قوله: وكذا إزالة كل سراج وطفيه فإن فاعل ذلك ملعون.. الخ.
قد تقدم الكلام فيه ومايجوز وماكان ينبغي لك التجري والمجازفة باللعن وطريقة العلماء العاملين أن لايؤثموا ولايخطئوا بما لم يصح عند الخصم مما الطريق فيه غير معلومة وإن صح عندهم فهذه مجازفة.
وأما قياسك على الغصب في وجوب الهدم.
فنقول: أولا: لانسلم وجود العلة التي هي المعصية، ثم لو سلمنا فرضاً وجودها فمن أين لك أنها العلة في الحكم مع أنها منقوضة بما بني مفاخرة وسمعة ومكاثرة؟
وأما قولك: ولايصح هذا الوقف ولايحل إثباته وتنفيذه.
فنقول: قد ثبتت شرعية الزيارة للقبور والتلاوة عندها والدعاء كما سبق فالوقف صحيح لما في ذلك من القربة المندوب إليها كسائر القرب.(1/94)
وبعد هذا فقد أكثرت أيها المترسل من التشنيع والتبديع والتضليل والرمي لطوائف الحق بما لم يعتقدوه ولم يفعلوه ولم يرضوه ولم يقاروا عليه وتشبيههم باليهود والنصارى بغير دلالة ولابرهان وحسابك في ذلك كله على الملك الدَّيان.
[ادِّعاءُ صاحب الرِّسالة أن الدعاء عند القبر من كيد الشيطان، والجواب عليه]
قال: والمقصود أن الشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار.. الخ.
الجواب: قد تقدم مراراً أن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد ندب إلى الدعاء عند القبور وفعله مؤخر الليل، وبيَّن كيف يقال فيه كما رويته، وفَعَلَهُ السلفُ والخلفُ، فكيف تنسب تحسين ذلك إلى الشيطان؟ الله المستعان.
ونقول: اعلم أن الشيطان بخبث كيده يحسن لأهل البدع والزيغ الإنكار لِمَا خص الله تعالى به أهل البيت ـ عليهم السلام ـ، ورفع من قدرهم، فإذا تقرر ذلك لديهم أدحضهم إلى مزلة أخرى وهي نسبتهم وشيعتهم إلى الابتداع، والمخالفةِ لِمَا أمر به الرسول، وفعل مانهى عنه، فإذا خيل لهم ذلك، وأشربه قلوبهم نقلهم إلى دَرك آخر، وهي أن يحكموا بضلال أهل السفينة، وأتباعهم الهداة، ورميهم بالإشراك، وتشبيههم باليهود والنصارى والغالين مع عليٍّ ـ عليه السلام ـ، فبالحقيقة لا أعظم من دسائس أهل الشُّبَهِ والأهواء، وهذه حبالة إبليس التي اتخذها للإغواء.
عصمنا الله تعالى والمؤمنين عن طرق الضلال والغواية، وثبتنا على الدين القويم، والصراط المستقيم سبيل الحق والهداية، ورزقنا التوفيق، والكون مع خير فريق، وصلى الله على محمد وآله حماة الدين، إلى يوم حشر العالمين، آمين.
قال في الأم: حرر غرة شعبان الوسيم سنة 1369 هـ.(1/95)