[جواب المؤلف أيده الله تعالى على ادِّعاء صاحب الرسالة من أنَّ فاعل ذلك مناقضاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، محاداً له صلى الله عليه وآله وسلم]
قال: والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور الموقدين عليها السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لِمَا أمر به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ محادون لِمَا جاء به، إلى قوله: ولأن فيه تضييعاً للمال من غير فائدة، وإفراطاً في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام.
الجواب: أن كلامك يقتضي منع تعظيم القبور على الإطلاق وهو خلاف ما ورد عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من قصدها بالزيارة والدعاء والتلاوة وأمره بإعلامها ونهيه عن الجلوس عليها وماجرى عليه السلف والخلف من تعظيمها بذلك لو لم يكن إلا تعظيم قبر الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ المجمع عليه من جميع طوائف الأمة المحمدية، فكيف يالك الويل تجعل فاعل ذلك مناقضاً لما أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ محاداً لما جاء به، لقد جئت شيئاً فرياً، وأما بناء المساجد والتسريج فقد تقدم الكلام عليه.
[جواب المؤلف ـ أيده الله تعالى ـ على ادِّعاء صاحب الرسالة من أن في فعل ذلك تضييعاً للمال من غير فائدة]
وأما قولك: إن فيه تضييعاً للمال من غير فائدة إلخ.
فأي فائدة أعظم من الإعانة على ماندب إليه الشارع من التلاوة والدعاء والزيارة؟.
وقولك: إن في ذلك إفراطاً في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام، مجازفة كيف تجعل ما أقررت بشرعه مما ذكر كفعل الجاهلية؟!(1/86)
[بعض من تخبطات صاحب الرسالة، وجواب المؤلف ـ أيده الله تعالى ـ عليه]
قال: والذي شرعه الرسول عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء والترحم عليه والاستغفار وسؤال العافية فيكون الزائر محسناً إلى نفسه وإلى الميت قالت عائشة: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كلما كان ليلتها يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ماتوعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)) رواه مسلم وفي صحيحه عنها أيضاً: ((إن جبريل أتاه فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت: قلت: كيف أقول لهم يارسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون..)) الخ ما أورده في الزيارة والدعاء عندها والاستغفار.
الجواب: هذا مناقض لما ذكرت سابقاً من منع الدعاء عندها، وجعل معظمها بذلك مناقضاً لما أمر به الرسول محاداً لما جاء به، فأنت الآن تستدل بالسنة وفعل السلف على شرعية الدعاء وتخصيص ذلك الموضع بفعله فيه وفي قول عائشة: كلما كان ليلتها يخرج.. الخ، دليل على تكرر ذلك من الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وتأكيده لديه فقد كفيتنا بذلك البحث مؤونة الرد عليك ورددت على نفسك بما حررته بيديك وما أحسن قوله:
يصيبُ وما يدري، ويُخطي وما درى .... وليس يكون الجهلُ إلاَّ كذلك
…وقد عدت فنقضت ما أبرمت، ونكثت ما أحكمت، بقولك فيما سيأتي: ومحال أن يكون الدعاء عندهم مشروعاً وعملا صالحاً، وهذا لا ينبغي أن يصدر مثله عن ناظر، ولا شك أنَّ الهوى يُصِمُّ الأَسماع، ويُعمي الأبصار ((وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)) [الإسراء:72].(1/87)
قال: ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلَّم على النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ثُّمَّ أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثُّم دعا.
الجواب: أنك ناقضت بهذا ماسبق لك من منع الدعاء عند القبور؛ لأنك حكيت هنا أن السلف حموا جانب التوحيد بما حكيت من فعلهم الدعاء عند قبر النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.
قال: ولَم يفعلوا عند القبور إلا ما أذن فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من السلام على أصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم.
الجواب: أنَّ حصرك ما أذن فيه فيما ذكرت ممنوع، فقد تقدم لك مايقتضي دخول الدعاء لنفس الزائر وغيره كما في حديث عائشة: ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وفي حديث سليمان بن بريدة في تعليم النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لهم: نسأل الله لنا ولكم العافية، وفي حديث ابن عباس: يغفر الله لنا ولكم ونحن بالأثر، وما أورده في هذا البحث قد مضى الكلام فيه.
[الكلام على قصة نبي الله تعالى دانيال عليه السلام](1/88)
قال: وقد ذكر محمد بن إسحاق في مغازيه عن خالد بن دينار، قال: حدثنا أبو العالية، قال: لَمَّا فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعباً فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه قرأته مثل ما أقرأُ القرآن، فقلتُ لأبي العالية: ما كان فيه؟، قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعدُ. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً مستغرقة، فلَمَّا كان الليل دفناه، وسوَّينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه. قلت: ومايرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال. فقلت: منذ كم وجدتموه مات. قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ماكان تغير منه شيء؟ قال: إلا شعيرات من قفاه إنَّ لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع، ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به الناس، ولَم يبرزوا للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، وهم قد اتخذوا من هو دونه، وأقاموا له سدنة، وجعلوا له مسجداً، وعظَّموه أعظم من المسجد.(1/89)
الجواب: أنَّ هذا الأثر على فرض صحته لاحجة فيه، ومن أين لك ظهوره للمهاجرين والأنصار وتقريرهم له فضلا عما ادعيت أنهم فعلوه وهي حكاية فعل لبعض منهم، ولعل تعميتهم له لِمَا ظهر لهم من افتتانهم به كما يفعله أصحاب الأوثان، لكونهم قريبي عهد بالكفر، وأيضاً فقد صرَّح بالعلة في إخفائه بقوله: لا ينبشونه، وهذا مقصدٌ صالحٌ؛ لأن النبش لا يجوز، والتقبيرَ هو المشروع، فمتى لَم يكن ذلك إلاَّ بالإخفاء صار حسناً كما فعله أئمة الهدى عند خشية نحو ذلك، أولهم إمامهم الأعظم، وسيِّدُهم المقدم، أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأخو سيد النبيئين ـ صلوات الله عليهم وآلهم وسلامه ـ فإنه أُخفي قبره بوصية منه، حتى انقضت سطوة الجبارين، وأظهره أولادُهُ أئمةُ آل محمد؛ لأنه كان معلوماً لديهم يزوره السلف والخلف منهم، كما قال الإمام الناصر للحق الحسن بن علي الأطروش ـ عليهما السلام ـ:
فإذا جئتَ الْغَرِيَّا .... فابْكِ مولانا عَلِيَّا
وقال:
مدائنُ الأرضِ تيها على .... مدائنِ الأرضِ بها تفخرُ
فلو أرادَ الله سوءا بها .... ما كان مقبوراً بها حيدرُ
وكذا فاطمة الزهراء، سيدة نساء الدنيا والأخرى، وخامسة أهل الكساء، أَخفى قَبْرَهَا الوصيُّ، ودَفَنَهَا ليلاً بوصيةٍ منها، لئلا يحضرها الشيخان كما صحَّ ذلك بروايات آل محمد ـ عليهم السلام ـ ، وروايات المخالفين منهم أهل الصحاح البخاري وغيره، فلابأس بإخفائها عند حدوث مثل هذا، ثُّمَّ إظهارها عند زوال الموجب، فهو من حفظها وتعظيم شأنها.
وليت شعري ما أردتَ بسياق هذه القصة؟! أتريد أن تعمي وتنبش قبور المسلمين، وتشرع لهم أن يعموا ضريح سيد المرسلين، وقبور الأئمة الهادين، فذلك ينقض أخبارك التي رويتها أنت في الزيارة لها والدعاء عندها وخلاف ماعليه أهل الإسلام من السلف والخلف؟!(1/90)