قال: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مقاصده جزم جزماً لايحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهي بصيغة لاتفعلوا وصيغة: ((إني أنهاكم..)) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقه بمن عصاه وارتكب ماعنه نهاه ولم يخش ربه ومولاه.
الجواب: من أين لك الجزم بذلك فإنه لم يدل عليه دليل ولا أمارة، وأيضاً لا مانع أن تكون العلة غير ماذكرت فما دليل الحصر فيما ادعيته على أنه قد قام الدليل بخلاف ماذكرت من جعلها وصلة وهو مانبه عليه النص من نفس اتخاذها أوثاناً تعبد فبطلت دعواك الحصر، وقد رجعت بحمدالله تعالى إلى الحق على غير قصد في قولك: بل هو لنجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، ولَم يخشَ رَبَّه ومولاه.
[ادِّعاء صاحب الرسالة أن هذا وأمثاله صيانة لحمى التوحيد، والجواب عليه]
قال: فهذا وأمثاله من النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه.
الجواب: لا يخلو إما أن تريد بما أشرت إليه بقولك: فهذا... إلخ، ما ورد النهي عنه من اتِّخاذها أوثاناً ونحوه كما أشرت إليه بقولك بل هو لنجاسة الشرك... إلخ، فهو معلومٌ مُسَّلَمٌ ولا نزاعَ فيه، وإمَّا أن تريد بها منع الزيارة والدعاء والتلاوة ونحو ذلك مما ندب إليه الشرع ورآه المسلمون حسناً فهو ممنوع، فكيف تنصب ماتخيله وهمك، وتطرق إليه فهمك في مصادمة ماورد به الشرع الشريف، واستحسنه أئمة الدين الحنيف؟!.
[ادِّعاء صاحب الرسالة أنَّ بسبب تعظيم قبور الصالحين دخل على عباد الأصنام]
قال: فأبوا وقالوا: بل هذا تعظيم لقبور الصالحين. ولعمر الله من هذا بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة.(1/81)


الجواب: ماتقصد بقولك: من هذا. فإن كنت تريد اتخاذها أوثاناً واعتقاد تأثيرها النفع والضر من دون الله تعالى كما فعله المشركون فلاريب في تحريم ذلك، وكيف تتجاسر على نسبة فعل ذلك بين ظهرانَي آل محمد قرناء الكتاب وأمناء رب الأرباب وأمان أهل الأرض من العذاب، أم كيف يقرون على مثل ذلك وهم الحامون لحمى الدين الحنيف الذابون عنه كل زيغ وتحريف الباذلون أنفسهم في إحياء معالم الشرع الشريف، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم، وإن كنت تريد تعظيمها بما ندب إليه الشارع من الزيارة والتلاوة والدعاء فقد ركبت متن عمياء، وخبطت خبط عشواء، وأخطأت السبيل، وارتكبت الرد بغير حجة لِمَا اقتضاه الدليل.
[عودة إلى الكلام على سَدِّ الذرائع]
قال: وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور.
الجواب: يقال ماهذا المحذور الذي أردت سد ذريعته إن أردت الشرك فليس في شيء مما ورد به الشرع من الزيارة والدعاء والتلاوة ذريعة إلى ذلك أصلا، وإن أردت بالمحذور ماندب إليه الشرع وجرى عليه أهل البيت وشيعتهم بلا منع فيا عجباه من تصيير المعروف محذوراً والمشروع منكراً ومحظوراً
يا ناعيَ الإسلامِ قُمْ فَانْعَهُ .... قدْ ماتَ عُرْفٌ وبَدَا مُنْكَرُ
[ادِّعاء صاحب الرسالة مخالفة أكثر الناس لسنة الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، والصحابة في مسألة القبور، والجواب عليه]
قال: ومن جمع بين سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في القبور وما أمر به ومانهى عنه وماكان عليه أصحابه وبين ماعليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مناقضاً للآخر مضاداً له بحيث لايجتمعان أبداً.(1/82)


الجواب: قد سبق الكلام فيما أمر به الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ونهى عنه والجمع بين ما أمر به ونهى عنه في حالة مستحيل، ففي العبارة قلق، ونقول: بل إن من نظر في موارد الشرع وما أمر به الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وماكان عليه الصالحون وما رآه المسلمون خلفاً عن سلف، وفيما نشأ لأهل الأهواء والبدع ومانسبوه إلى الموحدين وارتكبوه من تضليل طوائف المسلمين سيما العترة الهادين ذرية الرسول الأمين رأى أحدهما منافياً للآخر مناقضاً له، فجعلهم الله ورسوله سفينة النجا وحكم بأنهم لم يخرجوكم من هدى ولن يدخلوكم في ردى، في آيات تتلى وأخبار تملى. وأنت عكست القضية وأخطأت الرمية وعدلت عن السوية فجعلتهم خارجين عن الهدى داخلين في الضلالة والردى، وأمر الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بالتعلم منهم والحذو حذوهم والتمسك بهديهم، وأنت أخذت من غيرهم وتعلمت من خصومهم وتمسكت بهدي أعدائهم ونهى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن شتمهم والتأخر عنهم ومخالفتهم فقال: ((لاتأخروا عنهم فتهلكوا ولاتخالفوهم فتضلوا ولاتشتموهم فتكفروا)) وأنت تأخرت عنهم وخالفتهم وشتمتهم ولم يرتكب الخوارج ومن حذا حذوهم من المناصبين للعترة الزكية ما ارتكبوه إلا من هذه الطريقة الشنيعة التي أوصلتهم بالتحقيق إلى كل مقالة فضيعة، فما بالك تنهى عن الذرائع وأنت في سوحها راتع ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)) [البقره:44].
قال: فنهى رسول الله عن الصلاة في المقبرة وهؤلاء صلوا عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليه المساجد. إلى قوله: ونهى عن إيقاد السرج عليها.
الجواب: تقدم الكلام على ذلك بمافيه كفاية للمستبصر.(1/83)


[الكلام على تسوية القبور، وجعل الشرفات عليها]
قال: وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم، قال: قال علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ.. إلى قوله: أن لاتدع تمثالاً إلاَّ طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلاَّ سَوَّيته، إلى أن قال: وفيه عن ثمامة قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يأمر بتسويتها قال: وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب.
الجواب: هذان الحديثان الآحاديان لا يبلغ بهما أن يكفر أو يفسق بمخالفة مضمونهما، بل ولا يضلل على فرض وقوع المخالفة، وينبغي أولاً النظر في معناهما، فأما التشريف فيحتمل جعل الشرفات عليها فنهى عن ذلك لِمَا فيه من الزينة التي تخالف التذكر والاعتبار، ويحتمل أن تكون مأخوذاً من الشرف وهو الإرتفاع وهو من الأمور النسبية القابلة للقلة والكثرة، فلعل ذلك فيما وقع ارتفاعاً مجاوزاً، ويحتمل أن يكون فيما رفع وليس بأهل لذلك، ويحتمل أن يكون فيما رفع من قبور الجاهلية لقرب العهد، أو لعل ذلك لكونهم يعكفون عليها، ونحو ذلك من أفعال الجاهلية، ولذلك قرنه بطمس التمثال، وأما التسوية فيحتمل إزالة الشرفات كما سبق، أو إزالة الارتفاع المفرط فلذا قال: إلا سويته ولم يقل: إلا هدمته. والمسألة نظرية للناظر فيها نظره.(1/84)


[الكلام على تجصيص القبور، والبناء عليها، والكتابة عليها]
قال: ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى أبو داود والترمذي في سننهما عن جابر.. الخ.
الجواب: وما أورده من التجصيص والكتابة والبناء محتملة على فرض صحة الأحاديث قابلة للتأويل كما أشرنا إليه ومع صحتها وعدم مايعارضها، المسألة ظنية وهي بمراحل عن التكفير والتفسيق والتضليل، ولم يزل الأئمة من آل محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يبنون المشاهد والقباب ويجددون ما اندرس منها في مشارق الأرض ومغاربها ويكتبون في الصخور أسماء موتاهم والتعريف بحالهم بلا تناكر منهم ولامن أحد من المسلمين حتى نشأ المخالفون ومن حذا حذوهم ممن استمالوه من أتباعهم واستهووه من طغام رعاعهم، ولو لم يكن من ذلك كله إلا مشهد الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقبته المشرفة التي لم يستطع المخالفون محو آثارها ولاطمس منارها، وقد بلغ بخبر الأثبات محاولتهم لذلك فمنعوا بأمر إلهي ومانع رباني كما منع من هدم الكعبة أصحاب الفيل فكبتهم الله وردهم بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً.
أما الكتابة في الصخور ونحوها فأدلة شرعية الزيارة تقتضي ندبية إعلامها بما يتميز به بعضها عن بعض، وقد أَعْلَمَ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قبرَ عثمانَ بنِ مظعون ـ رضي الله عنه ـ في البقيع بحجر كما صح ذلك، وإنَّما لَم يكتب؛ لأن الألواح لَم تكن هناك، فيحمل ماورد من النهي عن الكتابة إن صح ذلك على كتابة ما لا يحسن كما في قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((كنت نهيتكم ...)) إلخ الخبر المار، والموجب لذلك ماذكرناه من أدلة الزيارة، وفعل السلف والخلف.(1/85)

17 / 83
ع
En
A+
A-