وقد أفاد المقصود بالنهي مارواه الإمام الأعظم زيد بن علي ـ عليهما السلام ـ بسند آبائه ـ عليهم السلام ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال في أثناء حديث: (( ونهيتكم عن زيارة القبور، وذلك أن المشركين كانوا يأتونها فيعكفون عندها، وينحرون عندها، ويقولون هُجْرَاً من القول، فلا تفعلوا كفعلهم، ولا بأس بإتيانها؛ فإن في إتيانها عظةً ما لَم تقولوا هُجْرَاً))، فصرح بأنَّ النهي للعكوف والنحر والهجر، والعكوف عليها هو العبادة كما أشرت إليه في تفسير مجاهد الذي رويتَهُ.
[الكلام على زيارة النساء للقبور]
قال: وعن ابن عباس قال: لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج.
والجواب: أمَّا زيارة النساء للقبور فقد كفانا المؤونة بما أورده صاحب الرسالة من رواية مسلم عن عائشة أن جبريل ـ عليه السلام ـ أتاه فقال: إنَّ ربك...، إلى أن قال في تعليم عائشة للزيارة ـ: قولي السلام على أهل الديار.. إلخ، وهذا يعارض ما رويتَهُ من لعن الزائرات، فكيف تحتج بهما؟.
وأما اتخاذها مساجد فقد أجبنا عنه.(1/76)
[الكلام على اتِّخاذ السرج على القبور]
وأما اتِّخاذ السرج عليها فغايته تحريم جعل السرج على القبور، والحقيقة تفيد وضعها مباشرة عليها لا تحريم التسريج حولها وبعيداً عنها، وإلاَّ لَزِمَ كون سدنة المسجد النبوي والآمرين لهم والراضين بفعلهم لمشاركتهم لهم داخلين في اللعن منذ اتخذت فيه السرج إلى اليوم وما بعده، ولا مخرج لهم من ذلك؛ لأن التسريج عند القبر النبوي ـ صلوات الله وسلامه على مشرفه وآله ـ وحوله معلوم بالعيان على مرور الزمان، فقد عمل السلف والخلف التسريج عندها للزيارة والتلاوة، فإن صح الحديث فيحمل على وضع السرج عليها، أو أن يكون النهي لاقترانه بعبادتها وقول الهجر عندها، لا لمطلق التسريج، ثُّمَّ إنَّ ذلك الحديث آحادي لا يفيد ما ادَّعاه من المحادة لله ورسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.
قال: وفي البخاري أن عمر بن الخطاب رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال: القبر القبر.
الجواب: أن فعل أنس ينقض ما ادعيته من الإجماع على النهي، وقول عمر لاحجة فيه ولا دلالة.
قال: وقال أبو سعيد الخدري قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)).
الجواب: هذا ينقض عليك ماخرجته من أن النهي عن الصلاة عند المقابر للإشراك إذ قد قرنها بالحمام، ولا يتوهم فيه ذلك، وهو يفيد أنَّ المراد باتخاذها مسجداً الصلاة عليها، وفيه نقض لِمَا أبرمتَ.
[حديث ((لاتجلسوا على القبور ولاتصلوا إليها))]
قال: وأبلغ من هذا أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلايكون القبر بين المصلي والقبلة ففي صحيح مسلم: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: ((لاتجلسوا على القبور ولاتصلوا إليها)) .
الجواب: أن مفاد الحديث وهو قوله: ((لا تجلسوا على القبور)) خلاف مدعاك من أنها لا تحترم ولا تعظم كما سيأتي لك تشبيهها بمسجد الضرار وقولك: ويجب هدمها وطمسها.
وأما قولك: وفي هذا إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة.(1/77)
فالجواب: أنا لو سلمنا أن النهي ليس لأجل النجاسة فلم لا يكون لجعلها قبلة كالوثن وهو معنى قوله: (( لاتتخذوا قبري وثناً يعبد )) هذا وقد ظهر من كلام صاحب الرسالة هنا وفيما سيأتي أنه فهم أن تعليل النهي بالنجاسة ليس إلا لأجل المباشرة وليس كذلك بل لو جعل ذلك العلة لكان لأجل القرب منها تَنْزِيهاً وبعداً ولو لم يباشرها، فياسبحان الله كيف يتوهم أنه لم يظهر لمن علل بالنجاسة أنه لامباشرة في ذلك مع أن الحوائل الكثيفة مانعة عن ذلك.
[معنى حديث (لعن الله اليهود والنصارى اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد)]
قال: ومنها أنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ومعلوم قطعاً أن هذا ليس لأجل النجاسة.
الجواب: نقول بموجب ما ذكرت؛ لأن العلة ما أشرنا إليها سابقاً من جعلها وثناً تعبد، وأيضاً لا نعلم أحداً علل بالنجاسة في قبور الأنبياء حتى تنقض بذلك عليه، وأيضاً لا يلزم من عدم صحة التعليل بالنجاسة ثبوت ما ادعيت، لِمَ لا يكون لأجل الصلاة عليها وإليها كما هو ظاهر الأحاديث أو يكون حكماً تعبدياً لا علة له ظاهرة؟
قال: ومنها أن موضع مسجده كان مقابر للمشركين فنبش قبورهم وسواها واتخذه مسجداً ولم ينقل ذلك التراب.
الجواب: هذا لا يفيد مطلوبك من منع التعليل بالنجاسة إذ النبش يفيد إزالة ما فيها.
وقولك: لَم ينقل ذلك التراب، لا دليل عليه مع أنه يحتمل زوال النجاسة للإستحالة، مع أن ذلك حكاية ترك.(1/78)
[ادِّعاء صاحب الرسالة أن فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر، والجواب عليه، والكلام على قاعدة سد الذرائع]
قال: ومنها: أن فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر فإذا نهى عن ذلك سداً لذريعة التشبه التي لاتكاد تخطر ببال المصلي فكيف بهذه الذريعة القريبة التي كثيراً مايدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى واستغاثتهم وطلب الحوائج واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم والدعاء والتلاوة أفضل منها في المساجد مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله.
الجواب: ياسبحان الله من هذا الإيراد الذي تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع، ويقال: من أين لك أن في الصلاة بعد العصر والفجر ذريعة إلى الشرك حتى يقاس هذا عليه؟ وأما قولك: فكيف بهذه الذريعة القريبة. الخ.
فيقال: من أين لك وقوع ذلك الذي ادعيت كثرته وممن وقع؟ وعلى الجملة فغير مسلم التعليل بكونه ذريعه كما سبق تحقيق ذلك، ولو سلم كونه ذريعة لمن لايعقل فليس كل ذريعة يجب سدها بتركها ألا ترى إلى قوله تعالى: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا)) [المائدة:58]، ولم يمنع من النداء وأمثال ذلك.
[الكلام على دعاء الموتى]
وأما قوله: دعاء الموتى واستغاثتهم فإن كان ذلك لذواتهم وطلب النفع منهم فلاشك في قبحه وليس ذلك بواقع ممن رميتهم به، وإن ظهر شيء من ذلك أنكر على فاعله، وإن كان ذلك للتوسل بهم إلى الله تعالى فلا بأس به كما وردت به الأخبار والآثار.
وأما قولك: إن اعتقاد أن الصلاة عند قبورهم والدعاء والتلاوة أفضل منها في المساجد مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله.(1/79)
فالجواب: أما الصلاة فقد تقدم الكلام عليها، وأما الدعاء والتلاوة فإن كان للزيارة فهو مشروع غير ممنوع بل في الأخبار والآثار في الزيارة والدعاء مايفيد أفضلية ذلك على فعله في المساجد ونحوها كما سبق الكلام فيه وسيأتي في كلامك وإن كان لغير الزيارة فلادليل على المنع بل ورد في البقاع مايدل على أفضلية بعضها على بعض، فالعجب كل العجب من جعلك معتقد ذلك محاداً لله ورسوله، فهذا هو الخبط والمجازفة، لا قوة إلا بالله.
قال: ومما يدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قصد منع هذه الأمة بالفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم من أنه لعن المتخذين عليها المساجد.
فالجواب: أن هذا دليل على أنك تخبط خبط عشواء بينما أنت تستدل به على منع المشاهد والصلاة عندها لكونها وصلة إذ نقضت ذلك بنصك على أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قصد منع هذه الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح، وأي شيء وقع من قوم نوح غير عبادتها وجعلها أوثاناً.
قال: ومنها أنه قرن في اللعن بين متخذ المساجد عليها وموقدي السرج عليها إلى أن قال: ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها فكذا اتخاذ المساجد عليها ولهذا قرن بينهما.
الجواب: من أين علم ذلك، بل لايظن ذلك، وبأي طرق العلم استفدته؟ فليس لك إلا محض الدعوى لم لاتكون العلة ما اقترنت به من اتخاذها مساجد أي أوثاناً، وقد سبق الاستدلال عليه وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى.
قال: ومنها أنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: ((اللهم لاتجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) فذكر ذلك عقيب قوله: اللهم لاتجعل قبري وثناً يعبد تنبيه منه على سبب لحوق اللعن وهو توصلهم بذلك إلى أن تصير أوثاناً تعبد.
الجواب: أن الحديث مصرح بما قدمناه من أن اللعن والغضب لاتخاذها أوثاناً تعبد وليس فيه تنبيه على ماذكرت من التوصل والإشارة.(1/80)