إلى قوله: ومن الناس من يُجَوِّزُ ذلك، فنقول: قول السائل لله تعالى: أسألك بحقِّ فلان وفلان من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، أو بجاه فلان، أو بحرمة فلان، يقتضي أنَّ هؤلاء لهم عند الله جاه، وهذا صحيح فإن هؤلاء لهم عند الله مَنْزِلة وجاه وحرمة... إلخ كلامه.
قلت: وهذا هو غرض المجيزين للتوسل بالأنبياء والصالحين، فأصحاب الشيخ المدَّعون لمتابعته، المانعون لذلك، والمنكرون على من أجازه أشد الإنكار بل قد يبلغ بهم الحال إلى أن يقولوا هو من الشرك الأكبر مخالفون لِمَا وَرَدَ في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، ومخالفون لكلام الشيخ هذا، ويلزمهم تكفيره، وإن كان الشيخ يَتَلَّوَنُ في كلامه، فالعمدة الدليل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وعلى الجملة التوسل عند علماء المسلمين مشروع غير ممنوع، ولَم ينكره إلا مؤلف هذه وأضرابه الذين حذا حذوهم صاحب الرسالة فإن غالبها منقول من رسالتهم باللفظ.
[كلام للقاضي الشوكاني والجزري على جواز التوسل]
قال القاضي الشوكاني في تحفة الذاكرين شرح عدة حصن الحصين [صفحة 36] بعد أن روى خبر الأعمى وذكر من صححه:
فقد صحح الحديث هؤلاء الأئمة، وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى الله عز وجل مع اعتقاد أنَّ الفاعل هو الله سبحانه وتعالى، وأنه المعطي المانع... إلخ كلامه.
وقد سبق قول مؤلف عدة الحصن الحصين الجزري [في صفحة 37]: ويتوسل إلى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين. فقال الشوكاني: أقول ومن التوسل بالأنبياء ثم ساق خبر الأعمى ثم قال: وأما التوسل بالصالحين فمنه ماثبت في الصحيح أن الصحابة استسقوا بالعباس ـ رضي الله عنه ـ عم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقال عمر: اللهم نتوسل إليك بعم نبينا.. إلخ.(1/71)


[الكلام على تجصيص القبور، والبناء عليها، وزخرفتها، وتسريج السرج عليها، والصلاة فيها]
هذا وأما تجصيص القبور والبناء عليها وزخرفتها وتسريج السرج عليها والصلاة فيها، فاعلم وفقنا الله تعالى وإياك أن هذه مسألة فقهية نظرية لا ينبغي أن يضلل بها فضلا عن أن يفسق أو يكفر فغاية الأمر أن في ذلك نهياً، وقد صح أن النهي ظاهر في التحريم وليس نصاً، وإذا عارضه ما يقتضي صرفه عن ظاهره فلا حجر ولا منع، والواجب إعمال الأدلة والجمع بينها ما أمكن، فالعجب من جعل ذلك طريقة إلى التفسيق والتكفير، وتضليل المسلمين بما لا يتحقق فيه الظن، فضلاً عن القطع، وقد وقع ذلك بين ظهرانَي أئمة الآل خلفاً عن سلف من دون نكير من أحد، وكذا سائر المسلمين.
[الكلام على بناء المشاهد والقباب]
وأما بناء المشاهد والقباب فقد قُبر النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في بيته بأمره، وهو مبنيٌّ مسقفٌ، وقرَّر ذلك الوصيُّ، ومن معه من الصحابة، وعلى ذلك إجماع آل محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وعلماء المسلمين ـ رضي الله عنهم ـ، ولازال أئمةُ الآل في تجديد ما اندرس من قبور أهاليهم ومشاهدهم، ومن اطَّلَع على سيرهم علم ذلك.
وليس بمجرد البناء يصير المبني مسجداً إذاً للزم أن تكونَ البيوتُ والحمامات وغيرها مساجد، ولا قائلَ به، فعلى فرض أنَّ المراد النهي عن بناء المسجد على القبور، وأن ليس المقصود ببناء المساجد فوقها لاتخاذها هي مساجد، فغايته: تحريم أن يبنى لذلك الغرض، وتحريم جعلها مساجد، ولا يفيد تحريم مجرد البناء، إذ ليس كل بناء مسجداً قطعاً، فلا تسمى القباب والمشاهد مساجد لا لغة ولا شرعاً، ولا بنيت لتكون مساجدَ أصلاً، فما هذا التنكير والتهويل بغير دليل؟!، وهذا واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.(1/72)


فأما البناء حولها فليس مسجداً مالَم يقصد تسبيله للصلاة، وأيضاً فقد ورد في قوله تعالى: ((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا)) [الكهف:21] ولم ينكر القرآن عليهم، ولا يتصور أن يكون في شريعتنا منسوخاً بقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))؛ لأنَّ النسخ لِمَا قد شُرِعَ لا يكون باللعن عليه، وإنَّما يردُ النسخُ بانتهاءِ بيان الحكمة في ذلك الفعل، فلا يجوز أن يقال: لعنهم الله تعالى لاتِّخاذهم بيتَ المقدس أو نحوه قبلة كما ذلك معلوم، فلابد من الجمع بينه وبين ماورد في السنة من اللعن للمتخذين المساجد على القبور.
والجمع في ذلك بأن يقال: المراد بما ورد في القرآن اتخاذ المسجد حواليهم ومحيطاً بهم لاعلى القبور أنفسها، والمراد: ماورد في السنة بناء المساجد عليها أنفسها، ولايقال إن المراد بالذين غلبوا غير المسلمين لأنه لايبني المساجد إلا المسلمون، وهذا واضح لمن عقل وتدبر معاني القرآن والسنة، وعرف الحجة في عمل المسلمين السلف والخلف قبل هذه الطائفة المبتدعة المعادية لأحياء المسلمين وأمواتهم.
[الرد على ما أورده صاحب الرسالة بالتفصيل]
ونتكلم على ما أورده صاحب الرسالة مفصلا بإعانة الله تعالى:
[ذكر بعض الأنواع الْمُحَرَّمِ فعلُها عند القبور، وتمويه صاحب الرسالة في ذلك، والجواب عليه]
قال: فروت عائشة أنَّ أُم سلمة ذَكرتْ لرسول الله كنيسةً بأرض الحبشة، إلى أن قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)).(1/73)


الجواب: ليس فيه شيء مما ادعاه السائل، والحديث مصرح بعلة إنكار فعلهم من اتخاذ قبره مسجداً مع تصوير الصور فيه فنقول بموجبه، فإن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ، وشيعتهم ومَن بينهم لا يتخذون شيئاً من القبور مساجد، ولا يرضون بالتصوير.
قال: وروى ابن جرير بإسناده عن سفيان بن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: ((أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى)) [النجم:19] قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره.
وعن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج.
الجواب: ياسبحان الله من إيراد هذا، ومَن الذي لا يُنكر عبادة الأوثان والقبور والعكوف عليها لعبادتها؟! وأين هذا مما يروم صاحب الرسالة إنكاره؟!.
قال: فقد ظهر سبب عبادة بعض الآلهة إنما كانت من تعظيم قبورهم، وهذه العلة هي التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إمَّا في الإشراك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه... إلخ.
الجواب: هذا الاستنباط غير مسلم، بل هو اتخاذها آلهة كما تقدم التصريح به في كلام مجاهد، وهو الذي سيقت الآية لأجله، فجميع مارتبه السائل تخريجات ليس عليها دلالة ولا أمارة، ويتفرع عليه إبطال جميع ماشنع به السائل.
قال: فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنَّ الصلاة عند القبور منهيٌّ عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد.
الجواب: ما نقلته من إجماع المسلمين يحتاج إلى تحقيق، ولا تنبغي المجازفة بدعوى الإجماع، والخلاف في الصلاة عليها وعندها مشهور مزبور، وقد تكلم على ذلك في مواضعه من الفقه، وليس ذلك من الشرك في شيء، فكيف تقطع بأن هذا من المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لَم يأذن به الله تعالى.(1/74)


قال: ومن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتِّخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وقد تواترت النصوص عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه.
الجواب: أن جعل ذلك من المحدثات وأسباب الشرك يحتاج إلى برهان قاطع، ودعوى التواتر مفتقرة إلى بيان.
[الكلام على حديث (ألا وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد...)، وحديث (اللهم لا تجعل قبري وثناً)]
قال: ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبدالله البجلي قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قبل أن يموت بخمس وهو يقول في حديث، فَسَاقَهُ إلى أن قال: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك))، ثُّمَّ حكى بعد ذلك من حديث ابن عباس وعائشة وأبي هريرة وابن مسعود.
الجواب: أولاً: إنْ سلم صحتها فهي مصرحة بالنهي عن اتخاذ القبور أنفسها مساجد، ونقول بموجبه، ولكن أين ذلك مما يرومه صاحب الرسالة؟، مع أنه يحتمل أن يكون ذلك اللعن والذم لاتِّخاذها معبودةً من دون الله تعالى كما ورد ذلك مصرحاً به في قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((اللهم لاتجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد ))، وفي هذا تنبيه على أن سبب اللعن بذلك جعلهم لها أوثاناً تعبد كما قد روى ذلك صاحب الرسالة، وهو ينقض جعلك لها ذريعة في كلامك، فهو حجة عليك لا لك.(1/75)

15 / 83
ع
En
A+
A-