[الكلام على حديث الأعمى الذي توسل برسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ]
وقد ورد في التوسل من رواية القوم الذين هم عمدة الخصم فهو حجة عليه يلزمه التسليم لها ما أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، والترمذي وقال: حسن صحيح غريب، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة في صحيحه وصححه، والطبراني من حديث عثمان بن حنيف ـ رضي الله عنه ـ أن أعمى أتى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقال: يارسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري. فقال: أو أدعك؟ فقال: يارسول الله إني قد شقَّ عليَّ ذهابُ بصري.
قال: ((فانطلق فتوضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة، يامحمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في)).
ولَمَّا كان هذا الخبر الصحيح الصريح حجةً دامغةً، وبيِّنَةً قاطعةً، أبلغ الجاحدون لشرعية التوسل كلَّ حيلة، وتوصلوا لتحريفه ورد صريح لفظه ومعناه بكل وسيلة.
من ذلك أن الأعمى إنما سأل من الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الدعاء.
والجواب: أنَّا إنّما احتججنا بقول الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا بقول الأعمى، فإنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ علمه التوسل، حيث قال له: ((قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بمحمدٍ نبيِّ الرحمة، يا محمد أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي))، فهل شيء أصرح من هذا في أنَّه علَّمه أن يتوسل به، وأن يناديَهُ وهو غائب، وهو كنداء الميت بلا فرق.
ومن ذلك مازعموه أن المقصود بقوله: أتوجه بك. _أي بدعائك_.(1/66)
والجواب: أن هذا هو التحريف بعينه وحاشا الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن يُلْغز هذه الألغاز، ويعمي هذه التعمية، وهو المبين للناس ما يختلفون فيه، وإنَّ تقدير مثل هذا الذي يُخْرِجُ الكلام الصريح بلا دليل قاطع هو عين التحريف والتبديل، ولا فرق بينه وبين تأويلات وتحريفات الصوفية والباطنية، ولو ساغ مثل هذا لبطلت النصوص، ولَم يبق ثقة لعموم ولا خصوص، وكيف يكون قول الداعي: ادع الله لي دليلاً على التقدير في كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الصريح لِمَا لا يحتمله، ولا يشير إليه، فضلا عن أن يدل عليه، ((إِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)) [الحج:46].
[الكلام على استسقاء الصحابة بالعباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ]
ومارواه البخاري أن الصحابة استسقوا بالعباس ـ رضي الله عنه ـ عم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وقال عمر: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيئنا.. الخبر، وغير ذلك كثير.
وإذا ثبت شرعيته لَم يقبح، ولَم يكن معصية ولاشركاً، وسواء كان بحيٍّ أو ميت، إذ المقتضي واحد، وحرمة الميت عند الله تعالى باقية ثابتة، لَم يَرد ما يقطعها قطعاً، وإذا كان المقصود التوسل بما له من الحرمة والمنْزِلة عند الله تعالى فالحي والميت سواء لافارق بينهما في ذلك عقلا وسمعاً، وإن كان المراد طلب النفع والضر والخير والشر الذي لا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى فهو قبيح، والله تعالى له غير مبيح، سواء في ذلك الحي والميت عقلا وشرعاً ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان:13].
[الكلام على توسل آدم عليه السلام بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم]
وقد ذكرتُ في مجمع الفوائد(1) ما رواه الشيخ ابن تيمية [في الجزء الثاني من الفتاوى/ ص 150/ الطبعة الأولى/ سنة (1381 هـ)]:
__________
(1) ـ[ ص 273/ الطبعة الأولى/ 1418 هـ/ دار الحكمة اليمانية].(1/67)
وروى أبو نعيم الحافظ في دلائل النبوة ومن طريق الشيخ أبي الفرج، حدثنا سليمان بن أحمد (الطبراني)، حدثنا أحمد بن راشد، حدثنا أحمد بن سعيد الفهري، حدثنا عبدالله بن سليمان المدني، عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: (( لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال: يارب بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى إليه: وما محمد ومن محمد؟ فقال: يارب إنك لَمَّا أَتممتَ خَلْقي رفعتُ رأَسي إلى عرشك، فإذا عليه مكتوب: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، فعلمتُ أنَّه أَكرمُ خلقك عليك، إذ قرنتَ اسمَهُ مع اسمكَ، قال: نعم، قد غفرت لك... إلخ.
قلت: وهذا الخبر مرويٌّ في كتب أئمتنا، وفي هذا رد صريح مفحم لمن يزعم أن معنى ماورد من التوسل هو التوسل بدعائه، وهو وإن كان من التأويل الباطل فقد يمكن التلبيس به على من لا قدم له راسخ، أما هذا فلا يتصور فيه بحال، إذ هو قبل وجوده، وهو أبلغ من التوسل بالموتى من الأنبياء والأولياء ونحوهم إذ قد وجدوا.
[كلام مهم لابن تيمية على حديث الأعمى، وتعليق المؤلف ـ أيده الله تعالى ـ عليه]
وقال أيضاً في [الجزء الثالث/ ص 176] في سياق حقوق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما لفظه: وكذلك مما يشرع التوسل به في الدعاء كما في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عَلَّم شخصاً أن يقول: ((اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يامحمد يارسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي..)) إلخ الخبر الذي سبق.(1/68)
وهذا صريح في التوسل بذاته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لِمَا له من المكانة عند الله سبحانه وتعالى، وتصريحٌ من الشيخ ابن تيمية في جواز ذلك، فهؤلاء الذين يمنعونه أشد المنع، ويتأولون نحو هذا الخبر النبوي بخلاف حقيقته مخالفون لصريح السنة النبوية في هذا الخبر الصحيح ونحوه، ومخالفون للشيخ الذي هو عمدتهم، وعليه يعولون، وقد استوفيت طرق هذا الخبر الشريف ومخرجيه والكلام على التوسل بشرح الزلف [ص 164/ الطبعة الأولى، ص 251/ الطبعة الثانية، ص347/ الطبعة الثالثة]، وقلنا هنالك بعد ذكر الآيات الدالة على التوسل به ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما لفظه:
فلا يسوغ لمؤمن بالله تعالى ورسوله أن يجعل ذلك كالتوسل والاستشفاع بالأوثان، واعتقاد تقريبها إلى الله زلفى ((تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)) [الجاثيه:6] إلى قولنا:
وكذلك أَذِنَ الله تعالى أن ترفع جميع بيوته، وهي حجارة لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فلم يكن ذلك شركاً له تعالى، ولا عبادة لغيره، ولا قبيحاً، لَمَّا أذن الله تعالى به، بخلاف تعظيم الأصنام، وطيافة من طاف حولها من الأنام، واعتقاد شفاعتها عند ذي الجلال والإكرام، لَمَّا كان مما لم يأذن الله تعالى به، ولَم يَشْرعه... إلخ، وهو كلام مفيد فليراجع.(1/69)
[الكلام على حديث فاطمة بنت أَسد عليها السلام]
هذا وأخرج الطبراني في الكبير والأوسط، وابن حبان، والحاكم وصححوه عن أنس قال: لَمَّا ماتت فاطمةُ بنت أسد دخل عليها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فجلس عند رأسها، فقال: رحمك الله يا أُمي بعد أُمي... وذكر ثناءه عليها، وتكفينها ببرده، قال: ثُّمَّ دعا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أسامةَ وأبا أيوبَ الأنصاري وعمرَ بنَ الخطاب وغلاماً أسودَ يحفرون، فحفروا قبرها، فلَمَّا بلغوا اللحد حفره رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بيده، فلما فرغ دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فاضطجع فيه، ثُّمَّ قال: ((الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأُمي فاطمة بنت أسد، ووسع عليها مُدْخَلَها بحقِّ نبيك والأنبياء الذين من قبلي)).
[تخريج حديث توسل آدم عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم]
وما أخرجه الطبراني في الصغير، والحاكمُ، وأبو نُعيمٍ، والبيهقيُّ من توسل آدمَ بمحمدٍ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقد مرَّ.
[كلام مفيد لابن تيمية على حديث (وأسألك بحق السائلين عليك...)، وتعليق المؤلف ـ أيده الله تعالى ـ عليه]
وقال ابن تيمية في [الجزء الأول من فتاواه/ ص 209/ الطبعة الأولى] ما لفظه:
وقد جاء في حديث رواه أحمد في مسنده، وابن ماجه عن عطية الْعَوْفِيِّ عن أبي سعيد الخدري عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه عَلَّم الخارجَ إلى الصلاة أن يقول في دعائه: وأسألك بحقِّ السائلين عليك، وبحقِّ ممشاي هذا، فإنِّي لَم أَخرج أشَرَاً ولابَطَراً، ولا رياء ولا سمعة.
إلى قول الشيخ ابن تيمية ما لفظه: وهو السؤال بالْمُعَظَّمِ كالسؤال بحقِّ الأنبياء.(1/70)