ولهذا رد آل محمد عليهم السلام الأحاديث المحشوة القاضية بالتشبيه والجبر والإرجاء، وإنما قيدنا ذلك بالآحاد لأن القواطع لاتعارض فيها ولاتناقض لأن الحكيم العليم لايناقض حججه، لأن المناقضة خلاف الحكمة وصفة نقص والله يتعالى عنها ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً)) [النساء:82]، ((لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)) [فصلت:42]، ((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ)) [يونس:32].
وأما ما أمكن فيه التأويل والرد بغير تعسف إلى الدليل فالصحيح قبوله كما قرر ذلك في الأصول، هذا مع تكامل شروط الرواية من الضبط والعدالة ولولا التأويل لما استقام دليل، ولهذا مدح اللّه أهله بالرسوخ وقال تعالى: ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ)) [النساء:83]. وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما رواه الإمام زيد بن علي عن آبائه، عن علي عليهم السلام: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين))، وقد استوفيت طرق هذا الخبر وغيره من الأخبار في لوامع الأنوار.(1/56)


[ثانيا: الكلام في الحديث وشرحة]
ولنعد إلى المقصود بعون الملك المعبود: إذا تقرر هذا فنقول هذا الخبر من القسم الثاني أعني ما أمكن تأويله وصحت طريقه، فيجب العدول إلى التأويل، والمسألة التي ورد فيها من أصول مسائل الوعد والوعيد، وقد علم من هناك خلود من دخل النار أعاذنا اللّه تعالى منها بآيات القرآن الحكيم وقواطع السنة النبوية وإجماع آل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم قرناء التنزيل وأمناء التأويل، ((رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)) [آل عمران:192]، ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ {13} وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ {14} يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ {15} وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ)) [الإنفطار:13-16]، ((وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)) [الجن:23]، ((فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ)) [البقره:86]، ((كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا)) [السجده:20]، ((كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا)) [النساء:56]، ((كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)) [الإسراء:97]، ((مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)) [غافر:18] وغير ذلك من العمومات القاطعة والخصوصات الساطعة ممن لايبدل القول لديه وليس بظلام للعبيد.(1/57)


وكفى في هذا الباب بما قصه اللّه تعالى في الكتاب عن أهل الكتاب حيث يقول جل اسمه: ((وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [البقره:80-81] فسلف الذاهب إلى ذلك في قوله هم اليهود: ((تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ)) [البقرة:118] وحسبك في إكذابه وإبطاله قول الملك المعبود.
هذا وأصح ماوقفنا عليه من تأويل هذا الخبر لمتانته وعدم التعسف فيه ماتأوله به والدنا الإمام الأعظم أمير المؤمنين المهدي لدين اللّه رب العالمين محمد بن القاسم الحوثي الحسيني في جواباته على علماء ضحيان، وقد نقل ذلك التأويل في هوامش كثيرة من الأماليات والإرشاد، ولابد من إيراد السؤال والجواب بلفظيهما لما فيهما من الإفادة والتعرض للزيادة، ولابأس بإيضاح حجة وبيان محجة.
قال السائل، وهو القاضي العلامة المنتقد والحافظ المجتهد صارم الإسلام وخاتم المحققين الأعلام إمام الشيعة وواحد أساطين الشريعة الولي بن الولي إبراهيم بن عبداللّه الغالبي رضي اللّه عنهما في سياق السؤال: أخذنا المقصود منه ثم ماروي في أمالي أحمد بن عيسى برواية عيسى بن عبداللّه عن أبيه عن جده عن عمر بن علي عن علي عليهم السلام: ((من قرأ قل هو اللّه أحد مائة مرة جاز على الصراط يوم القيامة وعن يمينه وشماله ثمانية اذرع وجبريل آخذ بحجزته وهو متطلع في النار يميناً وشمالا من رأى فيها دخلها بذنب غير شرك أخرجه)) فهذا مشكل غاية الإشكال على قواعد الآل، إن قلنا برده مع هذا السند لزم التشكيك في جميع أحاديث الكتاب وهو أعظم معتمد أئمتنا، وإن قلنا بقبوله ففيه مافيه، والجواب مطلوب جزيتم خيراً.(1/58)


وأجاب الإمام عليه السلام عن هذا بما نصه من أثناء كلام: ومثل حديث قل هو اللّه أحد مع كونه ظنياً لايعمل به في مسائل الأصول إلا مؤيداً لغيره يمكن تأويله بأن المراد من رآه في رفاقته من أهل الكبائر. أخرجه من مرافقته في حال الجواز على الصراط عند الإطلاع على النار لأنه في سياقه والمقصود الطريق الموصلة إلى الجنة. وقوله بذنب غير شرك. لأن المشرك لايطمع في مرافقته من أول وهلة، يؤيد هذا التأويل قوله تعالى: ((قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا)) [الحديد:13] ونحو ذلك من التأويلات التي هي أولى من الرد إلى أن قال عليه السلام: وإن ورد مالايمكن تأويله وجب رده كما هي القاعدة المقررة ولايقدح ذلك في ناقله ولاكتابه، أما ناقله فالخطأ والنسيان والوهم تجوز على البشر، وإنما هو ناقل روى ماسمع، وإنما يقدح ماكان عمداً، ولهذا قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) فقيده بالعمد وكثير من أفراد الأحاديث نظر عليها وحكم بعدم صحتها ولم يعد ذلك قادحاً في الناقل ولافي كتابه، وأما الكتاب فلبقاء الظن بصحته وكمال شروط الرواية في باقيه. انتهى المراد من كلام الإمام عليه السلام وفيه كفاية وافية وهداية شافية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
وقد أشار بقوله عليه السلام: ونحو ذلك من التأويلات. إلى أن المقصود الحمل على خلاف الظاهر بأي تأويل ممكن فإن القرائح والفطن متباينة والأنظار متفاوتة فمن لم يسغ له هذا أو رأى غيره أرجح منه عدل إليه ومن تعذر كل ذلك عليه فقد وجب عليه اطراحه كما تقدم بيانه ((لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)) [البقرة:286] وهي منح ربانية وقسم إلهية ((ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء)) [المائدة:54]، ((ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء)) [آل عمران:74].(1/59)


وقد اختص اللّه تعالى أهل بيت نبيئه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالحظ الأوفر والنصيب الأكبر لما أهلهم اللّه تعالى من وراثة كتابه وحماية دينه ونالتهم دعوة جدهم صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((اللهم اجعل العلم والحكمة في عقبي وعقب عقبي وزرعي وزرع زرعي)). وكما قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي وعدني ربي فليتول علياً وذريته من بعدي وليتول وليه وليقتد بأهل بيتي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي ورزقوا فهمي وعلمي )) الخبر، جعلنا اللّه تعالى ممن اقتدى بآثارهم واهتدى بأنوارهم.
نعم وقد أفاد الإمام عليه السلام فائدة جليلة بما ساقه من قوله: ولايقدح ذلك في الناقل ولافي كتابه. وأوضح الاستدلال عليه وهي مهمة عظمى وفائدة كبرى قل من يتنبه لها إلا أهل الحل والعقد من أمثال هؤلاء الرجال الراسخة أفهامهم والثابتة أقدامهم في كل مقال ولدى كل مجال فترى كثيراً ممن لم يعض على العلوم بضرس قاطع ولاضرب في الفنون بفهم نافع يدمج الأشكال عموماً ويصير المعلوم موهوماً، فإذا أشكل عليه في المؤلف شيء رماه بالقدح وسارع إلى مؤلفه بالجرح، وذلك لعدم المسكة وفقدان الملكة ولالوم عليه في ذلك.
ولكن صاحب الورع الشحيح لايقدم ولايحجم إلا عن بصيرة فإن الأمر لاسيما في هذا الشأن عظيم ((أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [الملك:22].
وقد تطاول الكلام بما ساقت إليه الأبحاث حتى كاد يخرج عن المقام ولكن الحديث ذو شجون، ولايخلو إن شاء اللّه تعالى عن فوائد تحقق للراغبين مايرجون، ويؤخذ الجواب عن هذا السؤال وعما شاكله من تلك الغصون، ومن اللّه تعالى أستمد حسن التوفيق والهداية في البداية والنهاية، إنه قريب مجيب. وعليكم السلام الجزيل والإكرام والتبجيل في كل بكرة وأصيل.(1/60)

12 / 83
ع
En
A+
A-