[أخبار المؤيد بالله(ع)]
الكلام في طرف من ذكر المؤيد بالله -عليه السلام-: [و] اسمه: أحمد بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون من ذرية زيد بن الحسن
-عليهم السلام-، كانت ولادته بآمل طبرستان سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة فنشأ على السداد، وأحوال الكرام الأباء الأمجاد، وتأدب في عنفوان شبابه حتى برع في الأدب، واختلف إلى السيد أبي العباس أحمد بن إبراهيم وهو من ذرية داود بن الحسن بن الحسن، وكان أبو العباس هذا وحيد عصره، وعالم دهره، والحافظ لعلوم العترة، والناصر لفقه الزيدية، فأخذ عنه المؤيد بالله مذهب الزيدية، وقرأ -عليه السلام- [علم] الكلام على طريقة البغدادية وكان في الأصل إمامياً، فوضح له الحق، فانقاد إليه أحسن الانقياد، واختلف إلى أبي الحسين علي بن إسماعيل بن إدريس وقرأ عليه فقه الزيدية والحنفية، وروى عنه الحديث عن الناصر للحق، وكان المؤيد بالله عليه السلام في الورع والتقشف، والاحتياط، والتقزز إلى حد تقصر عنه العبارة، وتصوَّف في عنفوان شبابه حتى بلغ في علمهم مبلغاً عظيماً، وصنَّف في ذلك (سياسة المريدين) وكان يحمل السمك من السوق إلى داره، فكانت الشيعة يقولون: دعنا نتبرك بحمله، فيقول: أنا أحمله قسراً للهوى، وتركاً للتكبر لا للإعواز إلى حمله،.
وكان يجالس الفقراء وأهل المسكنة، وكان يرقع قميصه بيده، ويشتمل بإزار إلى أن يفرغه، وكان لا يتقوت ولا يطعم عياله إلا من ماله، ويرد الهدايا، والوصايا إلى بيت المال.(2/71)
وكان يكثر ذكر الصالحين، وإذا خلا بنفسه يتلو القرآن بصوت شجي حزين، وكان غزير الدمع كثير البكاء، دائم الفكر، وكان يمسك بيت المال بيده، ويحفظه بنفسه، ولا يثق فيه بأحد، ويفرق على الخدم بيده، ويوقع الخطوط بيده.
واشتهى يوماً لحم حوت، فبعث الوكيل إلى السماكين، فلم يجد إلا حوتاً لم يقطع، وقالوا: لم نرد أن نقطعه اليوم، فعاد إليه، فأخبره بامتناعهم من قطعه، فوجه ثانياً، وقال: مرهم عني بقطعه، فأبوا من قطعه، فلما عاد إليه، وأخبره حمد الله على أن رعيته لا تحذر جنبته وأنه عندهم ورعاياه سواء.
وكان كثير الحلم، عظيم الصفح.
حكي أنه دخل المتوضأ ليجدد الطهارة، فرأى فيه رجلاً متغير اللون يرتعد فزعاً، فقال له: ما دهاك؟ فقال له: إني بعثت لقتلك، فقال: وما الذي وعدوك [به]؟ قال: بقرة، قال: مالنا [من] بقرة، وأدخل يده في جيبه، وناوله خمسة دنانير، وقال: اشترِ بها بقرة، ولا تعد إلى مثل ذلك.
وله في الزهد والورع الحكايات الجمة.(2/72)
وأما علمه فلم يختلف فيه اثنان، [و] لم يبق فنٌّ إلا وقد بلغ فيه الغاية، وأدرك النهاية، وكفى بما حكاه عن نفسه، حيث قال: عزمت أن أسافر [إلى] الأهواز للقاء القاضي أبي أحمد بن أبي علان وسماع (مختصر الكرخي) عنه، فأخبرت الصاحب بما وقع في قلبي، وكتب [لي] كتاباً بخط يده، فأطنب في وصفي، ورفع من قدري حتى كنت أستحيي من إيصال ذلك الكتاب، فوصل إلى القاضي المذكور، فقال: مرحباً بالشريف !! [فإذا افتتح المختصر فلتحضر] ولم يزد على ذلك، ولا زارني بنفسه مع تقاعدي عنه من الغد ولا أزارني أحداً من أصحابه، فعلمت أنه اعتقد في كتاب الصاحب أنه صدر لا عن عناية صادقة، فقعدت عنه حتى كان يوم الجمعة، فحضرت الجامع بعد الظهر، ومجلسه غاص بكبار العلماء؛ لأنه قد كان مقصوداً من الآفاق، فسئل [القاضي أبو أحمد] عن مسألة كلامية.
و[قد] كان لقي أبا هاشم، فقلت لما توسَّط في الكلام: إنَّ لي في هذا الوادي مسلكاً، فقال: تكلَّم فأخذت في الكلام، وحققت عليه المطالب ثم أوردت أسئلة عرق فيها جبينه فامتدت الأعين نحوي.
فقلت بعد أن ظهرت المسألة: يقف على فصلي القاضي، وسئل شيخ إلى جنبه عن مسألة في أصول الفقه، فلما أنهى السائل ما عنده، قلت: إنَّ لي في هذا الجو منفساً فقال القاضي: والأصول أيضاً، فحققت تلك المسألة على ذلك الشيخ، فظهر ضعفه فسامحته، وسئل شيخ عن يساره عن مسألة في الفقه، فقلت: لي في هذا القطيع شاة، فقال : والفقه أيضاً، فأوفيت الكلام في تلك المسألة حتى تعجَّب الفقهاء من تحقيقي وتدقيقي.(2/73)
فلما ظهرت المسألة كان المجلس قد انتهى، فقام القاضي من صدره، وجاء إلى جنبي، فقال: أيها السيد، نحن ظننا أن الصدر حيث جلسنا، فإذا الصدر حيث جلست، فجئنا إليك نعتذر من تقصيرنا في حقك فقلت: لا عذر للقاضي مع استخفافه بي مع شهادة الصاحب بخطه، فقال: صدقت لا عذر لي، ثم عادني من الغد في داري مع جميع أصحابه، وبالغ في التواضع، فحضرته فقرأت عليه الأخبار المودعة في المختصر، فسمعتها بقراءته، وأمدني بأموال من عنده فرددتها، ولم أقبل شيئاً منها، وقلت: ما جئتك [عانياً] مستمنحاً، فقد كانت حضرة الصاحب أوفى حالاً، وأسهل منالاً، ولم يكن هناك تقصير في لفظ، ولا تفريط في لحظ، ففارقته، فشيعني مع أصحابه مسافة بعيدة، وأسفوا على مفارقتي.
وذكر من صنَّف بعض أخباره أن الصاحب قال ذات ليلة: ليذكر كل واحد منكم أمنيته، فذكر فقال: أما أنا فأتمنى أن يكون السيد أبو الحسين حاضراً وأنا أسأله عن المشكلات، وهو يبينها بألفاظه الفصيحة، وعباراته المليحة، وكان فارقه إلى الديلم، وله -عليه السلام- المصنفات الباهرة، فمنها في الأصول: كتاب (النبوات) يدل على غزارة علمه في الأصول، ثم في الآداب، فإنه بيَّن المعارضات التي عورض بها القرآن الكريم، وكشف أدحاضها، وأبان عوارها بكل وجه، وله في الأصول (التبصرة) كتاب لطيف، وله في فقه الهادي -عليه السلام- (التجريد وشرحه) أربعة مجلدة و(البلغة) أيضاً في فقه الهادي -عليه السلام-.(2/74)
وله في فقه نفسه (الإفادة) مجلد، و(الزيادات) مجلد، علقه عنه أصحابه، فيه كل مسألة غريبة، وفتوى عجيبة، ولهذين الكتابين شروح وتعاليق عدة، ولما توفي، وأقبل الناس على أخيه أبي طالب يسألونه، فقال له قائل: فأين كان هذا العلم في حياة السيد أبي الحسين؟ فقال: وهل كان يحسن بي أن أتكلم وهو في الحياة؟! وقيل له: أتقول بإمامة أخيك المؤيد؟ فقال: إن قلنا بإمامة زيد فما المانع أن نقول بإمامة أخي.
وقال الشيخ أبو الفضل بن شروين : دع أئمة زماننا، إنما الشك في الأئمة المتقدمين من أهل البيت وغيرهم، هل كانوا مثل هذا السيد في التحقيق في العلوم كلها أم لا؟
ومقالاته في كل فنٌِّ مذكورة، ومقاماته أيضاً في الحروب مدوَّنة مشهورة، وله خرجتان أحدهما: في أيام الصاحب الكافي في سنة ثمانين وثلاثمائة سنة، وبين الخرجة الأولى والثانية سنون وفترات.(2/75)