وكان قد خرج إلى فارس، فأكرمه عماد الدولة وعرف له مكانه من الأبوة، والفضل، وأن عماد الدولة كان أحد قواد الداعي، ثم انتقل الداعي إلى بغداد في أيام معز الدولة أحمد بن بويه فزاده إعظاماً؛ لأنه كان هو وأخوه من خواص الداعي.
قال السيد أبو طالب: وكان معز الدولة حين تمكن من بغداد، ولىّ نقابة العلوية أبا محمد [علي] الكوكبي القمي لخدمة قديمة سلفت له، وكان فيه زعارة وعنف، فشكاه العلوية إلى معز الدولة مرة بعد أخرى، فقال لهم: قد عزلته عنكم فاختاروا لأنفسكم من ترضونه، فأجمع العلوية على أبي عبد الله الداعي فقال معز الدولة: أنا أعظمه عن هذا العمل وأجله أن أخاطبه فيه، فإني أعتقد أن مكان المطيع هو مكانه، وهذا المستحق له دونه، ولكن إن سألتموه، واستشفعتم إليه، وأجابكم إلى ما تريدونه [منه] فهو منية المتمني، فاجتمعوا، وسألوا الداعي ذلك، فامتنع منه، وأنف من الدخول فيه.
هذا مع جلالة هذا الأمر في ذلك الوقت ببغداد، فأعادوا المسألة حالاً بعد حال، واستعانوا فيه بالشيخ أبي عبد الله البصري، فإنه كان يحب دخوله في الأمر أيضاً ليتمكن بجاهه فسأله ففعل، وشرط على معز الدولة في ذلك شرائط، منها: أن لا يدخل على المطيع، ولا يقبل له الخلعة التي جرت العادة بإخراجها من داره إلى كل من تولى ببغداد [من] الأعمال الجليلة؛ لأنها تكون سواداً، فامتنع من السواد إلى شرائط أخرى شرطها.
فأجابه معز الدولة إلى جميعها، وأنفذ إليه خلعة بياض، ولم يدخل على المطيع طول مقامه ببغداد.(2/66)
قال أبو عبد الله البصري: ما رأيت يوماً أحسن من يوم ركوبه حين ولي النقابة، وعليه الخلع، وحوله أشراف بغداد كلهم، وبين يديه حجاب السلطان.
قال: صعدت بعض الغرف المشرفة على الطريق حتى رأيته، ورأيت موكبه، قال: فولى أبا الحسين [بن] عبد الله نقابة الكوفة، وأبا أحمد الموسوي نقابة البصرة، وأبا الحسين الموسوي نقابة واسط، وأبا القاسم الزيدي نقابة الأهواز وأعمالها، وكان معز الدولة يكبره الإكبار الذي لا مزيد عليه حتى أنه كان بين يديه يوماً جماعة من أكابر حاشيته، وكانوا إمامية، وفي جملتهم الحولي القمي، فكان معز الدولة يناظرهم، ويقول لهم: يا إمامية، أين إمامكم ؟ ومتى يظهر؟ فقالوا له: أيها الأمير، وأين إمامك ؟ أنت أيضاً بلا إمام، فقال: أنا أريكم إمامي فلما دخل أبو عبد الله الداعي، قال: هذا إمامي، وكتب إليه الرضى الموسوي حين ولي النقابة أبياتاً مطبوعة ظريفة:
الحمد لله على عدله.... قد رجع الحق إلى أهله
كم بين من يختاره والياً.... وبين من يرغب في عزله
يا سيداً يجمع آرائنا.... مع كثرة الخلق على فضله
ومن غدا يشبه أسلافه.... في قوله الحق وفي فعله
لو قيل من خير بني المصطفى.... وأفضل الأمة من نسله
أشار بالأيدي إليك الورى.... إشارة الفرع إلى أصله
يا ابن علي بن أبي طالب.... مثلك من دلَّ على مثله
لو لم أقل بالنصِّ في مذهبي.... وكنت كالقاطع من حبله
لقلت: قد قام إمام الهدى.... واجتمع العالم في ظله
نيلك في الأمر الذي نلته.... يزيد والله على نيله(2/67)
ولم يزل -عليه السلام- ببغداد مقيماً حتى ارتفع صيته، وعلا ذكره في الآفاق، فكاتبه أهل الصلاح من أعيان الديلم بأنهم يبايعونه، وينصرونه إن خرج إليهم، فوصل إليه نفر منهم، فخرج من بغداد مستتراً لا يقف على خروجه إلا خواص من أهل العلم، الذين بايعوه ببغداد سراً، وكان معز الدولة غائباً عنها، وكان قد اجتمع للعلوية [من أوقافهم] مال كثير، أراد تفريقه فيهم، وكان مودعاً لم يكن يقف عليه أحد، فحين خرج من بغداد كتب رقعة وذكر فيها مبلغ المال والموضع الذي هو فيه، وأن سبيله أن يفرق فيهم، ودفع الرقعة إلى بعض الثقات، ففعل ذلك الثقة، وفرَّق المال فيهم، وهم يبكون أسفاً على أمانته وعليه إذ فارقهم مثله، فوصل الديلم في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وبايعه المسلمون من سهل الديلم وجبلها، ومن الجيل، وطبرستان.
قيل : إن الذين بايعوه أربعة آلاف رجل من علماء الأمة، ثم جرى له أن تصاف هو وابن الثائر محمد فقبضه واعتقله على تكرمة، ثم أفرج عنه، واتحدت كلمتهما، وخرج من هوسم، واستخلف عليها ابن الثائر، ووثق به وسكن إليه، وزالت الوحشة بينهما، ثم وقع تخليط في عسكره، وخيانة من بعض أقاربه، فلم يتمكن من الإمداد إلى طبرستان، وأقام بهوسم على ضجر كثير من قلة وفاء الناس له بما كانوا بذلوه له أيام مقامه ببغداد.(2/68)
قال السيد أبو طالب: ومن تأثيره العظيم في باب الدين أن الديلم كانوا يعتقدون أن من خالف القاسم [-عليه السلام-] في فتاويه فهو ضال [ومضل]، وكل قول يخالف قوله ضلالة، والجيل يعتقدون مثل هذا في قول الناصر [-رضي الله عنه ]، ولم يكن يسمع قبل دخوله إلى تلك البلاد إذ كل واحد من القولين حق، فأظهر -رضي الله عنه- هذا المذهب بعد أن لقي منهم بسبب تأسيسه غماً طويلاً، ثم صلح الأمر بحميد سعيه، والقصة بطولها مشهورة مذكورة وأقام بهوسم إلى أن مضى لسبيله سنةستين وثلاثمائة ودفن فيه، وقبره هناك مشهور مزور، وأنفق الصاحب الكافي للانفاق على مشهده صدراً من المال.(2/69)
[أخبار الإمامين الأخوين المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني، وأخيه الناطق بالحق يحيى بن الحسين -عليهما السلام-]
والسيدان إماما الجيل من لهما.... في آل أحمد فضل غير منحصرِ
لم يبلغوا من ظهور العدل مأربة.... فيها مع مد باع غير ذي قصرِ
المراد هنا : السيد المؤيد بالله، وأخوه السيد أبو طالب، والضمير في قوله:لم يبلغوا ضمير جمع، فهو عائد إليهما، وإلى السيد الداعي المقدم ذكره.(2/70)