وكان مشهور البركة فلذلك قصدوه، ثم عاد إلى تزح فأقام بها، وولاته يتصرفون فيما يليه من الجهات والنواحي خاصة من أرض سنحان، وجنب كلها وبلد يام، ثم بعث رسله إلى اليمن في شهر شوال سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة لاستنهاض الناس إلى بين يديه، وحمل ما حصل من الأعشار وأصحبهم كتاباً إلى الناس عموماً، فوصلت الرسل إليهم، فقام في ذلك رجال من المسلمين من البونيين والخشب، والمغرب، والصيد، وجمعوا من البر والزكاة عشرة آلاف درهم، واجتمعوا في البون لعشر باقية من شهر ذي الحجة من السنة المذكورة، وساروا حتى انتهوا إلى صعدة، فانضاف إليهم جماعة من الناس، ثم ساروا حتى وصلوا [إلى] الإمام القاسم عليه السلام، وهو يومئذٍ في أسفل وادي بيشة، فلقيهم أولاده في رؤساء خثعم وغيرها ثم قدموا على الإمام في حصن له، وقد كان مريضاً مرضاً منعه عن اللقاء لهم، وأقبل إليه خلق كثير من خثعم عند قدوم أهل اليمن أقاموا عنده مدة ثم نهض حتى وصل بالقرب من صعدة، فأقام بها أياماً، ثم نهض بعد أن تقررت أوامره في صعدة، ونجران، ثم دخل صنعاء، واستحكمت أوامره أيضاً في صنعاء ومخاليفها، ودوَّخ كثيراً من الأعداء، وكان يقود الجيوش الكثيرة، فإن في الرواية: أنه حدث عليه خلاف من بعض أهل نجران، فأمر إلى واليه بصنعاء وأعمالها، فجمع له جنوداً كثيرة، ثم نهض إلى نجران بذلك العسكر الضخم، بلغ عدد الخيل فيه ألف فارس سوى نيف وثلاثين فارساً، وعدد الرجل ثلاثة آلاف ومائتان وأربعون راجلاً، فلما استقر في نجران دمر أضداده، ثم عاد بجنده المنصور إلى صعدة ثم أمر(2/61)
بدراهم قد كانت اجتمعت له من نجران، وضَّم إليها شيئاً كان في صعدة من خراجها، فأمر بأن يقسط ذلك على جميع العسكر، فحصل للفارس مائة درهم، وللراجل ثلاثون درهماً، فقبض من ذلك بعض العسكر، وكرهه الأكثر استقلالاً له، فلما علم بذلك -عليه السلام- خرج وجمع له الناس، فتكلم معهم بأن قال: يا جميع شيعتي وجنودي، وأهل طاعتي، قد دعوتكم فأجبتم، وانتصرت بكم فنصرتم، وأنا كثير الشكر لكم والثناء عليكم عند الله ندباً، وعند كافة بني آدم، ثم قال في آخره: وأمَّا ظنكم أني بخلت عليكم بشيء سوى ما أمرت [فيكم] بقسمته فلا والله وحق جدي رسول الله ً ما دخرته عنكم، فاعذروا ابن [بنت] نبيكم، ولا تطلبوه ما لا يطيق فيحبط أجركم.
قال الراوي: فلقد رأيت أعين كثير ممن حضر تفيض بالدمع، ثم عاد -عليه السلام- إلى منزله، وعاد جنده وولاته إلى كل ناحية وخطب له في نواحي مخلاف جعفر، وكحلان، وما يليه، ولم يزل دأبه [-عليه السلام-] إقامة قناة الدين، وإخماد نار الملحدين، وكان إذا حضر معركة نازل الأقران، وأنزل القران، وكان راعياً لأرباب العلم، وازعاً لأرباب الظلم، كثير اللطف واللين، معروفاً بتقريب المساكين، دمث الشمائل، جزل النائل، يؤثر على نفسه مع الحاجة.
وله رسائل ومكاتبات: مشحونة بالحكم والمواعظ، وهي مذكورة في كتب السير.(2/62)
[ومن رسالة له] -عليه السلام-، قوله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يرتبطان بغير زمام، ولايؤدى فرضهما بغير إمام، الإقرار بالنبوة لا يصح إلا مع الإقرار بالذرية، الإقرار بالكتاب لا يصح بغير نصاب، مقلد الناس كالباني بغير أساس، [طالب العلم من غير أهله كمشتري الدر بغير خبرة]، والمؤتم بغير العترة كالأعمى يتبع الأعمى.
ومن هذه الرسالة:قوله -عليه السلام-: أما تعلمون -رحمكم الله وهداكم- أن أصل الهلكة منذ بعث الله [سبحانه] آدم [-عليه السلام-] إلى هذه الغاية لم تكن إلا باحتقار الأنبياء -صلوات الله عليهم- في أيامهم، وبالذرية من بعدهم إلى أن تقوم الساعة، وعنوان هذه الرسالة: (من الإمام القاسم بن علي إلى جميع الشيعة الطبريين العارفين بفضل محمد خاتم النبيين).
كانت وفاته عليه السلام: يوم الأحد لتسع خلون من شهر رمضان في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، ومشهده بعيان مزور مشهور، مجرب البركة.
قال الفقيه حميد: أخبره شيخه أحمد بن الحسن الرصاص: أنه كان معه وجع، فمسحه بتربته، فرفعه الله عنه.
[و] أولاده -عليه السلام- ستة: وهم يحيى، وجعفر، وعلي، وسليمان، وعبد الله، والحسين، وسيأتي طرف تفصيل من ذكر [من] أولاده -عليهم السلام-.(2/63)
[أخبار الإمام المهدي لدين الله محمد بن الحسن بن القاسم عليه السلام]
قوله :
والسيد العلم الداعي الذي ضربت.... بعدله سائر الأمثال في السيرِ
هو: أبو عبد الله محمد بن الداعي إلى الله الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن من ذرية زيد بن الحسن بن علي- عليهم السلام-.
وأمه جرجر بنت فيروز الديلمي، كل آبائه سادة قادة، وأبوه الأدنى الذي يضرب بعدله المثل في البلاد الذي ظهر فيها أمره، وقد تقدم ذكره، فقول السيد هنا: بعدله تضرب الأمثال في السير. فيه إبهام.
واعلم أنه: انطلق لفظ الداعي على جماعة من أهل البيت [عليهم السلام] منهم: أبو عبد الله هذا، وأبوه، والحسن بن زيد، وأخوه، ومنهم: الداعي يحي بن المحسن، الآتي ذكره، فهؤلاء اشتهروا بهذا الاسم، وإن كان كل إمام فهو داع.
وأما صفة هذا الإمام، فقالوا: إنه كان منور الوجه، حسن الشبيبة، إلى السمن أقرب، كثير البكاء من خشية الله [تعالى] غزير الدمعة، مقرباً للصالحين وأهل الخير، شديداً على الفسَّاق، معروفاً بسلامة الصدر، حسن الرجوع على حدة مفرطة كانت به، ثم يرجع أحسن رجوع، وجمع بين العلم والعمل، وقد ذكر بعضهم: أنه لو مادت الأرض لعظم شيء لمادت بعلم أبي عبد الله.(2/64)
وكان في علم الكلام بحراً تياراً، وشيخه فيه أبو عبد الله البصري الذي قال: كنت أملي بعض (الموجز) لا[بن] أبي بشر الأشعري وكان الداعي يستملي ذلك بنفسه، ويكتبه مع سائر أصحابنا، وكان يحتاج إلى أن يكتب في كل يوم نحو ثلاثين ورقة، أو أقل، أو أكثر، وكنت أتأمله وهو يكتب ذلك، وقد عرق من شدة الحر، وتعب تعباً كثيراً، وهو شيخ سمين، فقلت: أيها السيد، لا تتعب نفسك فيما يمكنك أن تستنب فيه، فقال: إني أحبُّ أن لا أتأخر عن أصحابنا في الاستملاء؛ كما لا أتاخر عنهم في الدرس.
وكان أبو عبد الله البصري يقول لأصحابه: لا تتكلموا في مجلس الشريف أبي عبد الله في مسألتين: في مسألة الإمامة، وسهم ذوي القربى، فإنه لا يحتمل ما يسمع منكم فيهما.
وروي أنه سمع فقه الحنفية على الشيخ أبي الحسن الكرخي حتى بلغ فيه مبلغاً عظيماً كان يضرب به في حفظه المثل ولذلك كان بعض الناصرية يقول: إنه -عليه السلام- حنفي، وتارة يقولون: معتزلي.
قال السيد أبو طالب: سمعت كافي الكفاة يذكر: أنه لقيه ببغداد، وأنه كان يحضر داره كثيراً، وأنه أول ما لقي شيخنا أبا عبد الله البصري لقيه في داره.
قال: وكناَّ نجرب حفظه بفقه أبي حنيفة بأن نكتب له مسائل غامضة، ننسخها من الكتب، وكان يقترح علينا أن نفعل كذلك، فكان ينظر فيها ويكتب أجوبتها تحتها، ولا يغلط في شيء منها على المذهب.(2/65)