وصمد لصمد لم يرغم
من معدن أركانه لم تهدم
بعزة مشكورة لم تذمم

وماجد لماجد لم يبرم
يلقى الوفود غير كاني الميسم
وأنت نور في الظلام الأقتم
قالوا: فاستقر عبد الحميد في حلملم وتبدد عسكره، وانحل نظام جمعه، وأقام المسلمون في قصر الحمراء يوم الأربعاء، فلما كان يوم الخميس كتبوا إلى الناصر [-عليه السلام-] يعلمونه بما كان من النصر المبين، وأمروا بأخماس الغنائم، وجمع من رؤوس القتلى، وعاد كل من القواد إلى مركزه وموضعه، فعاد جواب الناصر [-عليه السلام-] يحضهم على جهاد القرامطة، وقصدهم إلى أوطانهم، فنهض الجند إلى حلملم، فهرب عبد الحميد وخلف في حلملم رجل من أصحابه، فقصدهم عبد الله بن محمد السعدي في عسكره.
فلما أيقن به [من] في حلملم ولوَّا هاربين إلى جبل ميتك فدخل السعدي حلملم، فأحرقها بالنار واستولى على ما فيها من الطعام، وطلع عبد الحميد إلى جبل مدع، ثم نهض العسكر كله إلى المصانع، فلما علم بهم هرب إلى مسور.
قال مصنِّف سيرة الناصر -عليه السلام-: وفتتت هذه الوقعة أعضاد الملحدين.
قال: ولقد شهدت الحروب، وعاينتها منذ بلغت الحلم، فما رأيت يوماً كيوم (نغاش) قتلاً من أعداء الله.(2/46)


قال: ولقد أقمت فرسي في موضع كثر فيه القتل، فسمعت للدماء دوياً كدوي الماء إذا هبط من صعود، [قال -رحمه الله-] ولقد رأيت ظبياً مقتولاً، [قد سقط بين قبيلتين] وحدثني بعض أصحابنا أنه رأى ظبيين مقتولين في موضع آخر، وذلك أنه لما وقعت الهزيمة في القرامطة مع كثرتهم طلعوا الجبل، فدخلت الوحش [بينهم] فقتلت معهم. ودخل كثير من القرامطة بين القتلى وتضمخوا بالدماء، فلما جنَّ عليهم الليل فلتوا.
قال: ولقد بان لي من ذلك أني أشرفت على موضع من البون، يقال له: باهرة حين رجع المتبع من أصحابنا، فرأينا الجبل أنها كالسيل من القرامطة عراة يسعون هرباً ممن كان مندساً في الجبال والشعاب، وتحت الأعناب، وذلك أن كثيراً من عسكرنا مل القتل فسلب وخلاهم، ولقد كررت راجعاً على شعب فيه قتلى كثيرة قد ركب بعضهم بعضاً، فقلت لمن معي: احفظوا هذا المكان حتى ننظر غداً، فلما كان من الغد نظرت إليه فوجدته رقيقاً بخلاف ما كان، فعلمت أنه كان فيهم أحياء دخلوا بين القتلى، ثم صحَّ لنا الخبر بعد ذلك.
قال: ولقد اجتهدنا أن نعلم عدد القتلى فما قدرنا على ذلك لتباعد الشعاب وافتراق الأمكنة. قال: وفقد من دعاتهم وأهل الرئاسة فيهم ثمانية وأربعون داعياً، ولقد وجدنا بعد ذلك قتلى كثيرة في شعاب نغاش بسلاحهم وثيابهم ما سلبوا.
قال: وما قتل من أصحابنا سوى رجل من أهل البون أخطأ به بعض أصحابنا، وقال شاعر من جند الناصر يمدح أبا جعفر أحمد بن محمد الضحاك الهمداني:(2/47)


إن الهمام البطل المعيدى.... رمى رجال مسور بالكيد
يوم نغاش فرقوا بالأيدي.... ورمحه خلفهم كالصيد
وهم عناديد كفريق الذود.... قيدهم صارمه بقيد
قالوا: ولما استقر عبد الحميد بمسور قصدته جنود الناصر [لدين الله -عليه السلام-]، فأحاطت به من جميع جوانبه، وضايقوه أشد المضايقة، وقتلوا فيهم في وقعات كثيرة فما أنقذهم من سطوة الحق إلا جنود المسودة وصلت من العراق إلى زبيد، ووصلوا من هناك قاصدين إلى جنود الناصر -عليه السلام-، وكان مجيئهم بمراسلة من القرامطة ولم يزل الناصر -عليه السلام- ساعياً في إقامة الدين حتى توفي رحمه الله سنة خمس وعشرين وثلاثمائة والمعارض له ولأخيه المقتدر العباسي، ودفن الناصر -عليه السلام- إلى جنب أبيه. قال الحاكم: وبعض الزيدية لا تقول بإمامة المرتضى والناصر. قال: وقد كانا جامعين للشروط، وخصل الانتصاب، ولا بد من القول بإمامتهما، وخلف الناصر أولاداً، وهم: القاسم أبو محمد، وفاطمة أمهما رقية بنت إبراهيم بن محمدبن القاسم، وإسماعيل، والحسن، وجعفر، ويحيى، وعلي لأمهات أولاد.وكانت مدة ولايته فيما ذكر الفقيه حميد -رحمه الله- في كتاب (الحدائق) ثلاث عشرة سنة، وملك -عليه السلام- الجوفين، وكانت له زراعة قوية في الجوف، وبلغ عدد البقر السود على حدها دون ما عداها ثلاثمائة ثور أسود، كانت تقوم على زراعته -عليه السلام- بشط معين ومشهده عند أبيه وأخيه مشهور مزور.(2/48)


ومن خطبة [له] -عليه السلام-: ألا وإني إنما دعوت إلى ما دعا إليه من كان قبلي من الأئمة الصالحين والعباد المخلصين، أنا عبد الله وابن نبيه، صلى الله عليه وآله وسلم الشاري نفسه لله [سبحانه]، الغضبان لله جل ثناؤه إذا عصي في أرضه واستخف بفرضه، وقلت الدعاة إلى دينه، فلو أسعفني الأعوان، وعاضدني الأنصار، وصبر على دعوتي أهل الأديان، لعلوت فرسي، واعتضدت رمحي، وتقلدت نجاد سيفي، ولبست درعي، وقصدت أعداء الله عز وجل، [وكافحت الأقران، وعاطيتهم كؤوس الطعان]، صابراً محتسباً، مسروراً جذلاً، إذا أشرعت الأسنة، واختلفت الأعنة، ودعيت نزال لمعانقة الأبطال، وسالت الدماء، وكثرت الصرعى، ورضي الرب الأعلى، فيا لها!! خطة مرضية لله عز و جل ثناؤه، وما أشرفها!!، فأنا أشهد الله لوددت أني أجد إلى حيلة سبيلاً يعز فيها الدين، ويصلح على يدي أمر هذه الأمة، وإني أجوع يوماً وأطعم يوماً حتى تنقضي أيامي، وألاقي حمامي، ولو أمكن ذلك ما نزلت عن فرسي إلا لوقت صلاة، والصفان قائمان، والجمعان يقتتلان، والخيلان يتجاولان، فأكون في ذلك كما قال شاعر أمير المؤمنين بصفين:
أيمنعنا القوم ماء الفرات.... وفينا السيوف وفينا الحجف
وفينا الشوازب مثل الوشيج.... وفينا الرماح وفينا الزعف
وفينا علي له سورة.... إذا خوفوه الردى لم يخف(2/49)


وكان كما قال جدي القاسم [بن إبراهيم] -عليه السلام-:
دنياي ما زال همي فيك متصلاً.... وإن جنابك كان المزهر الخضرا
إذا انقضت حاجة لي منك أعقبها.... هم بأخرى فما أنفك مفتقرا
متى أراني إلى الرحمن مبتكراً.... في ظل رمحي ورزقي قل أو كثرا
ثم قال الناصر -عليه السلام- عقيب هذه الخطبة: لكن قلَّ المعين على هذا الدين، فأنا وحيد دهري، وغريب في أمة جدي، وقد شغل بذلك قلبي وضعف عزمي، انتهى ذلك.
ومن شعره -عليه السلام- قوله:
أبعد الأربعين رجوت خلداً.... وشيبك في المفارق قد أتاك
كأني بالذي لا بد منه.... من أمر الله ويحك قد دهاك(2/50)

90 / 205
ع
En
A+
A-