وفي بعض الروايات أن رجلاً من شيعة الهادي كان له محل عند الهادي، قال له: من الخليفة بعدك، والقائم بالأمر من آل رسول الله ً بعد وفاتك؟ فأبطأ عليه الجواب، ثم أعاد السؤال، فقال له: يا أخي، أحمد يعني ابنه، ثم قال له: ثم من؟ فقال: حسبك إن عمرت عمر ثلاثة أئمة في كلام من نحو هذا.
قلت: ولعل هذا يعني ما أشار إليه السيد صارم الدين بقوله:
يعلم مكنون ما في الجفر من أثر... والله أعلم.
رجع [الكلام] قالوا: وتوفي المرتضى -عليه السلام- بصعدة سنةعشرة وثلاثمائة وله اثنتان وثلاثون سنة، ذكره السيد أبو طالب، ودفن إلى جنب أبيه، وله من الأولاد: أبو محمد القاسم، وإسماعيل، وإبراهيم، وعلي، وعبد الله، وموسى، ويحيى أبو الحسين وهو الخارج بالديلم الملقب بالهادي -الذي روى عن عمه كتاب (الأحكام) وروى (المنتخب)-، والحسن، والحسين، ومن البنات: أسماء، وخديجة.
ومن ذرية المرتضى: الشريفة الفاضلة العابدة: صاحبة السنام، وإنما سميت صاحبة السنام، لأنه يروى أنه كان ينبت في موضع ظهرها مثل سنام الجمل ملحاً كلما أزيل عاد كما كان، وذلك من بركتها، واسمها: حنة بنت عبد الله بن الحسين، وتوفيت سنة خمسمائة وقبرها بمقبرة دار الغزال من مقابر صعدة، وهو مشهور مزور.
والعقب للإمام المرتضى، في جهات اليمن هو من ذرية عبد الله بن المرتضى، والذين في العراق من ذرية يحيى، وهو أبو الحسين الخارج بالديلم كما تقدم ذكره، والله أعلم.(2/41)
[أخبار الإمام الناصر أحمد بن الإمام الهادي بن الحسين -عليهما السلام-]
فدَّوخ اليمن الأقصى إلى عدن.... مع الجبال كبعدان وكالشعرِ
وكان يوم (نغاش) منه ملحمة.... مع القرامط لم يبق ولم يذرِ
وعد سبعة آلاف مضوا عجلاً.... حصائداً بين مرمي ومجتزرِ
وبالمصانع أخرى منه تشبهها.... حلت عرى الشرك من كوني ومن قدرِ
الضمير في قوله: فدَّوخ اليمن الأقصى.. عائداً إلى أحمد المذكور فيما تقدم، وكنيته الناصر لدين الله، واسمه أحمد بن يحيى بن الحسين، وأمه أم أخيه المرتضى -عليهم السلام- [وكان] قد نشأ على الزهادة، وتربى على النسك والعبادة، حتى كان ذلك له ديدناً وعادة، واقتبس من نور والده الوَّقاد، وكرع في علم السلف والأجداد، حتى ارتوى من معين علمهم، واستمطر ربابات فهمهم، فله التصانيف المفيدة، والكتب العتيدة، وهي مشهورة، وفي الكتب مذكورة.
وقول السيد صارم الدين:
حلت عرى الشرك من كوني ومن قدر
إشارة إلى [أن] القرامطة الأولى، كانوا يقولون بمعبودين السابق (كوني) والثاني يسمونه قدراً ويستدلون على إثبات قدر بقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }[القمر:49].
وقد أشار إلى ذمهم بذلك شاعر الناصر الآتي ذكره.(2/42)
قال مصِّنف سيرة الناصر: ولما قدم -عليه السلام- من الحجاز في آخر ذي الحجة من سنة ثلاثمائة اجتمع إليه وجوه خولان، فاستعانوا به على أخيه المرتضى أن يقوم فيهم، فكره المرتضى ذلك، فسألوا الناصر القيام فيهم على ما كان والده فأجابهم، فأعطوه العهود والمواثيق على القيام معه على كل من ناوأه، وكانت بيعته يوم الجمعة في مسجد الهادي الذي فيه قبره عليه السلام، ثم ركب إلى صعدة القديمة في ذلك اليوم، فاجتمع خلق كثير.
قيل: إنهم ملأوا ما بين صعدة والغيل، وأنشده شاعره إبراهيم بن محمد التميمي في ذلك قصيدة [طويلة] أولها:
عادات قلبك يوم البين أن يجبا.... وأن تراجع فيه الشوق والطربا
ثم خرج إلى المدح فقال:
قوم أبوهم رسول الله حسبهم.... بأن يكون لهم دون الأنام أبا
من ذا يفاخر أولاد النبي ومن.... هذا يداني إلى أنسابهم نسبا
وهي قصيدة جيدة، ومنها قوله في القرامطة:
وصيروا (قدراً) رباً وسابقه.... (كوني)وقد قسما الأرزاق واحتسبا
وهو الذي أشار إليه السيد صارم الدين.
قالوا: ثم شاور الناصر خولان في نهوضه إلى الحجاز لأهله، فجددوا بيعتهم له، ولأخيه المرتضى على نصرتهما وأولادهما ما بقوا على الأرض، فقدم من الحجاز بعمه عبد الله وغيره من أهله.(2/43)
وكانت له -عليه السلام- حروب أكثرها مع الباطنية، وقد كانت شوكتهم قوية في عصره، وأظهروا المنكرات كلها، وشربوا الخمر في شهر رمضان استخفافاً بحرمته، وسجعوا سجعاً زعموا أنه قرآن نزل على رأسهم في الإلحاد علي بن الفضل، فكانت جنود الناصر في كل وقت تأخذ منهم بالثأر، وتنقم الأوتار، وكان آخر الوقعات وأعظمها وقعة نغاش، وقد كان اجتمع من الباطنية خلق كثير من المغارب، وناحية تهامة، وقائدهم يومئذٍ عبد الحميد بن محمد صاحب مسور، وندب الناصر عليه السلام عليه قواده، وهم: إبراهيم بن المحسن العلوي وأحمد بن محمد الضحاك وعبد الله بن عمر وغيرهم من الرؤساء، وكان عدة جنود الحق إلى ألف وسبعمائة، والباطنية إلى سبعة آلاف.
قالوا: فلما كان يوم الثلاثاء غرة شهر رمضان من سنة سبع وثلاثمائة نهض جند الناصر -عليه السلام- قاصدين للقرامطة في نغاش وصاح شعيب بن محمد السبيعي الأرحبي، فقال: يا معشر همدان، اسمعوا قولي، وعوا كلامي، والله، لئن لم أر هذه المضارب خرقاً في أيديكم في يومكم هذا ليحلن بكم البوار، ولتكوننَّ للقرامطة بمنزلة حمير عليها براذعها في أيامكم، ولتهتكنَّ حرمتكم، وليذهبنَّ عزكم، فقدموا فدتكم نفسي بالضرب قدماً، ولا تنظروا إلى تهويل القرامطة المشركين، فليسوا لكم بنظراء، وما بينكم وبين أن تنالوا من عدوكم ما تريدون إلا صبر ساعة يسيرة، ثم تفوزون بالنصر [والظفر]، وبفخر هذا اليوم باقي الأيام.(2/44)
قال مصنِّف سيرة الناصر -عليه السلام-: ولقد رأيت من سمعه من العسكر اهتزوا بقوله اهتزاز العرب، وحركتهم الحرية والنشاط، فصمموا قدماً وعبأت القرامطة عساكرهم على رأس جبل [نغاش]، وكان قائدهم عبد الحميد في القلب بأهل لاعة، وما يليها من بني شاور ومن تابعهم، وفي الميمنة القائد الآخر وهو محمد بن إسماعيل الجوبي، وعبد الله بن [أبي] الملاحف الصنعاني وكانوا في حجور، وعيان، وأهل حفاش، وملحان، والضلع، ومسور، والأعرار، وفي الميسرة يوسف بن يعقوب الوردي وهم أصحاب ركاب القرمطي وأهل الثقة عنده فسار كل واحد من الفريقين حتى تناظروا وتدانوا فاقتتل الناس حتى زالت الشمس، وطلع إبراهيم بن المحسن وكان ردءاً للقوم فاقتلعوا مضارب القرامطة، ودخلوا معسكرهم، وولت القرامطة منهزمين لا يلوي أحد منهم على أحد حتى قتل منهم بشرعظيم وأفلت عبد الحميد والرماح في قفاه، وكان تحته فرس جواد ونجى عليه بعد أن كان قد دنا عطبه، وتغنم الناس من السلاح والدواب ما يكثر ويعظم، وانصرفوا عنه، وإذ مضاربهم تحرق في أيديهم علىما حرَّض عليه شعيب بن محمد وقال عبد الله بن أحمد التميمي أرجوزة أولها:
عوجا خليلي أوان الموسم
ثم خرج إلى ذكر الوقعة فقال:
القرمطي ذي الضلال المرزم
عبد الحميد ذي الفعال المؤثم
إذ فر لا يقصر عن حلملم
وخلف الدعاة لحم الوضم
إياك يا أبا حسن لم نعدم
وسيد لسيد معمم
وباذخ لباذخ عرمرم
من خضرم سلالة لخضرم
وملك بملك عشمشم
ومقول لمقول لم يخضم(2/45)