[أخبار الإمام المرتضى بن الهادي -عليهما السلام-]
وما ارتضت مرتضانا حين طلقها.... لعلم مكنون ما في الجفر من أثرِ
وَسَلَّم الأمر مختاراً وقلده.... أخاه أحمد مغني كل مفتقرِ
عن رأي سادات أهل البيت عن كمل.... وكل قيل من الأذواء معتبرِ
هو: أبو القاسم محمد بن يحيى بن الحسين، غصن من أغصان الخلافة الناظرة، وبدر من بدور العترة الطاهرة، ورضيع ثدي الإيمان، وحليف السنة والقرآن، وأمه فاطمة بنت الحسن بن القاسم بن إبراهيم، فهو كريم الطرفين، متناسب الأبوين، وله العلوم الحسنة، والتصانيف المستحسنة في أصول الدين، وفروع الفقه، وعلوم القرآن.
وكان في الزهد والورع بحيث لا يختلف فيه اثنان، ولا يحتاج إلى إقامة برهان، وله في الشجاعة المقامات المحمودة، والمواقف المشهودة بين يدي أبيه، فكان قطب رحى الحرب إذا دارت، ومسعر نارها إذا التهبت وطارت، انتهت به الحال إلى أن أخذ أسيراً في بعض الحروب، وأقام مدة في ناحية بيت بوس حتى خلصه الله سبحانه، وله في ذلك أشعار كثيرة، وهي موجودة في سيرته -عليه السلام-، منها قوله:
أمير المؤمنين تعز عني.... ولا تحفل ببعدي واغترابي
وهبني كنت في القتلى صريعاً.... بأطراف الأسنة والحرابِ
وقم لله مجتهداً مجدَّاً.... فمثلك لا يعلَّم بالصواب
وكيف وأنت أفضل من عليها.... وأبصر بالعلوم وبالكتاب
هذا بعضها وإلا فقدرها أربعة وعشرون بيتاً، حتى قال في آخرها -عليه السلام:
فلا تخضع لأهل الكفر وانصب.... رماح الخط واجعلها حراب(2/36)


واعلم أن هذه القصيدة جواب على أبيه في قصيدة أرسل بها إليه، وهو محبوس مع القرامطة -لعنهم الله تعالى-، وهي قدر تسعين بيتاً -عليهم السلام ورحمة الله تعالى-.
ولما توفي الهادي -عليه السلام- وعظم الخطب بوفاته لكثرة القرامطة بأرض اليمن، وتُقُوي أمرهم اجتمع الناس إلى المرتضى، وقد كربهم الأمر، فأجهشوا بالبكاء، فلما سكتوا، وسكتت أصواتهم قال لهم: جزاكم الله من أهل محبة وولاية خيراً، ونعم الإمام كان لكم الهادي -عليه السلام- الناصح لكم، الحدب عليكم، إلى آخر ما ذكره، [ٍعليه السلام] ثم أنشأ يقول:
يسهل ما ألقى إلى الوجد أنني.... مجاوره في داره اليوم أو غدا(2/37)


فارتجت البلد بالبكاء، وتكلم كل واحد بمبلغ علمه ورأيه، ثم زاد تكلم المرتضى -عليه السلام- ووعظهم كثيراً، ثم بايعه الناس غرة المحرم سنة تسع وتسعين ومائتين، وأقام بصعدة، وفي يده بلد همدان، وخولان، ونجران، وأقام على ذلك مديدة، وسير جنوده لقتال القرامطة، فقتلوهم في كل فج، واستقامت له الأمور حتى إذا دخل شهر ذي القعدة من السنة المذكورة، وجمع وجوه العشائر قبله، وعاب عليهم أشياء كرهها منهم، وعزم على الاعتزال والتخلي من الأمر، وقال في خطبة خطبها عند ذلك: ثم إنكم -معاشر المسلمين- أقبلتم إليَّ عند وفاة الهادي رضي الله عنه [وأرضاه]، وأردتموني أقبل بيعتكم، فامتنعت ودافعت، ولم أسلم من إجابتكم إلى ما طلبتم مني خوفاً من استيلاء القرمطي -لعنه الله- على بلادكم، وتعرضه للضعفاء والأيتام والأرامل منكم، فأجريت أموركم على ما كان الهادي يجريها، ولم ألتبس بشيء من عرض دنياكم، ولا تناولت قليلاً ولا كثيراً من أموالكم، فلما أخزى الله القرمطي، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}[الأحزاب:25] تدبرت أمري وأمركم، ونظرت فيما أتعرفه من أخلاقكم، فوجدت أموركم تجري على غير سننها، وألفيتكم تميلون إلى الباطل، وتنفرون عن الحق، إلى أن قال: وذلك بعد رجوعي إلى كتاب الله سبحانه، واشتغال خاطري بتدبير آياته، وإعمال فكري ونظري في أوامره، وزواجره، ومحكمه، ومتشابهه، وخاصه، وعامه، وأمره ونهيه، وناسخه ومنسوخه، فوجدته يوجب عليَّ التبري من هذا الأمر إيجاباً محكماً، ويلزمني تركه إلزاماً قطعاً، فاتبعت(2/38)


عند ذلك أمر الله، ونزلت عند حكمه فإن تقم لله عز وجل علَّي بعد ذلك حجة، ووجدت على الحق أعواناً، وفي الدين إخواناً، قمت لأمر الله طالباً لثوابه، حاكماً بكتابه، وإن لم أجد على ذلك أعواناً صالحين، وإخواناً لأمر الله متبعين، لم أدخل بعد اليقين في الشبهة، ولم أتلبس بما ليس لي عند الله [فيه] حجة، وكنت في ذلك كما قال الله تعالى:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ }[الذاريات:54] إلى آخرها، ثم اعتزل الأمر وخلا بربه، وآثر عبادته على كل شيء، وصرف عماله من بلد همدان وخولان وغيرهما،ولزم منزله في صعدة، وأقام بعض بني عمه يصلح بين الناس، وكان أخوه الناصر في الحجاز، فقدم بعد ذلك، وأشار المرتضى عليه بالقيام [بالأمر] فقام به.
قال مصنف سيرة الناصر : كنت أتصل بالإمام المرتضى، وأتكلم بما أحب بين يديه، وكنت أشرح له أخبار الناس وأحوالهم، وما قد يداخلهم من السرور؛ لأجل توقفه، فيقول: أبشر أظلك [الله] الذي تطلب، ودنا منك ما فيه مرغب.(2/39)


فكنت أرى أنه يذكر بذلك قيامه لكثرة عرض الناس أنفسهم عليه، وهو في ذلك يعيد لهم القول الأول، ويدافعهم عن نفسه، فسألت عبد الله بن محمد بن السعدي، وكان من أفاضل أصحاب الهادي -عليه السلام- وأخيارهم، وأهل البصائر منهم، وذوي السابقة في الهجرة إليه، والمشاهد الشريفة معه، وهو من بني سعد بن بكر بن هوازن، وكانت له المنزلة الرفيعة عند المرتضى، فسألته عن قوله لي: أبشر بالذي تريد؟ فقال: نعم، هو أبو الحسن أحمد بن الهادي قادم إلى البلد، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحمدت الله سبحانه وانصرفت، فلما كان في شهر محرم [في] سنة إحدى وثلاثمائة قدم الناصر بن الهادي من الحجاز، فأقبل الناس إليه، وسألوا المرتضى إن كان غير قائم بأمرهم أن يعينهم على أخيه في القيام بذلك والبيعة منهم له، ولم يبعدهم عن ذلك، ودافعهم الناصر أيضاً، فكان هو والمرتضى أيامهما تلك في خلوة، ولا شك أنهما ينظران فيما يستقيم به أمر الرعية، ثم إن الناصر استدعى نفراً من أهل بيته [وأصحاب أبيه]، فعرَّفهم بما طلب منه الناس من إقامة أحكام الشريعة، وأن ذلك واجب إذ قد وجد عليه أعواناً، وشاروهم في الأمر، فتكلم أهل بيته، ثم تكلم وجوه من حضر من أصحاب أبيه، فكلهم أوجب له الطاعة والرضا بقيامه، ولم يلبث أن جاء رسول المرتضى بالمصير إليه، ودخل الناس عليهما، فوجدناه قاعداً عن يمين المرتضى، [فتكلم المرتضى] وذكر ما طلب الناس من القيام بالأمر، وبايع أخاه أحمد، ثم بايعه الناس أولاً فأولاً.(2/40)

88 / 205
ع
En
A+
A-