وكانت مناقبه الشاهدة بفضله جمة كثيرة، فمن ذلك أنه قصد [ذات يوم] بعض المساجد، وكان منفرداً من الأصحاب، ولا سلاح معه، فرآه بعض أعدائه فطمع فيه وعمده، فلم يجد شيئاً يدافع به عن نفسه، فعمد إلى صخرة صماء فسخرها الله له فقبض منها شيئاً فرمى بها وجه عدوه، فبقيت آثار أصابعه يزارذلك ويتبرك به.
ومن ذلك أن رجلاً كان يتحَّرب في الطرقات ومعه كلب قد عوده أنه إذا شاهد من يطمع فيه أرسله، فيعمد الكلب إلى موضع العورة من الرجل، ثم يأتي صاحبه، وقد كفاه المؤنة، فيأخذ ماله، فأقبل الناصر ذات يوم منفرداً، وقعد يأكل شيئاً من الطعام، فأرسل الرجل كلبه عليه كجاري عادته، فلما وصل الناصر قعد بالقرب منه، ولم يتعرض له، ورمى له الناصر بشيء من الطعام، وأقبل الرجل، فدعا الناصر الله سبحانه أن يسلط عليه كلبه، فسلط عليه فقتله، وانصرف الكلب مع الناصر، وأقام مدة، وكان ربما يحضر معه في شيء من حروبه، فيؤثر في الأعداء حتى كان في بعض الأيام وعمل رجل مائدة للناصر، فتقدم والكلب خلفه فلما استقر الطعام بين يدي الناصر نبح الكلب نباحاً عظيماً بخلاف العادة، وهم بالطلوع، فمنع من ذلك، وكانوا قد طلعوا إلى موضع بسلم، فأمرهم الناصر أن يخلوا بين الكلب وبين الطلوع، فطلع ووقف بين يدي الناصر، وأكل شيئاً من الطعام قبل الناصر فمات من حينه، وكان الطعام مسموماً، فسلم الناصر وأصحابه، ومن ذلك أن الناصر وقف ذات يوم بالقرب من ماء، وفيه ضفادع كثيرة وحيات، فخرجت(2/31)


منه ضفدع، فقصدتها حية، فدخلت الضفدع خلف الناصر كالمستجيرة به، فدعا الله أن يسلط الضفدع على الحية، فاستجاب الله دعاءه، وغدت الضفدع على الحية فقتلتها.
قلت: وإلى هذا أشار السيد، بقوله:
صالت ضفادع أمواه بدعوته.. (البيت)
ويقال: إن الضفادع من تلك المدة تقتل الحيات مستمراً من بركات هذا الإمام عند الله تعالى.
وأما قول السيد صارم الدين: دعا عقيب ابن زيد.. فهو يعني به محمد بن زيد المقدم ذكره.
ففي الرواية أنه لما قتل محمد بن زيد بجرجان، وقد كان الناصر حضر معه الوقعة، فانهزم في جملة المنهزمين، امتد إلى الري على طريق الدامغان، ثم خرج إلى جيلان، وابتدأ يعرض الإسلام على الجيل الذين هم على جانب الديلم، فأسلموا كلهم على يديه، وذلك في سنة سبع وثمانين [ومائتين] بعد ظهور الهادي -عليه السلام- باليمن الخرجة الأولى بسبع سنين، وقد كان أيام قدم على الحسن بن زيد إلى طبرستان جرى له بعد موته مع أخيه محمد بن زيد قصة عجيبة، وهو أن محمد بن زيد كان يتهمه بأنه منطوٍ على طلب الأمر والدعاء إلى نفسه، ومستشعر الفزع منه لمعرفته لفضله وعلمه إلا أنه كان لا يعدل به عن طريق الإكرام والاحتشام.
قال الشيخ أبو القاسم البلخي: كنَّا في مجلس الداعي محمد بن زيد بجرجان، وأبو مسلم بن بحر حاضر، وكنَّا جميعاً ممن يذب عن الناصر في تكذيب من ينسب إليه طلب الأمر، فدخل يوماً والتفت إلى أبي مسلم، وقال: يا أبا مسلم، من القائل:
وفتيان صدق كالأسنة عرسوا.... على مثلها والليل تغشى غياهبه
لأمر عليهم أن يتم صدوره.... وليس عليهم أن تتم عواقبه(2/32)


قال: فعلم أبو مسلم أنه قد أخطأ في إنشاد ذلك، لأنه يستدل به على أنه معتقد للخروج وإظهار الدعوة، فأطرق كالخجل، وعلمت أنا مثل ما علمه، فأطرقت وفطن الناصر لخطابه، فخجل وأطرق ساعة وانصرف، فلما انصرف التفت الداعي محمد بن زيد إلى أبي مسلم، فقال : ما الذي أنشده أبو محمد؟ فقال: أنشد -أطال الله بقاء الداعي-:
إذا نحن أُبْنَا سالمين بأنفسٍ.... كرامٍ رجت أمراً فخاب رجاؤها
فأنفسنا خير الغنيمة إنها.... تؤب وفيها ماؤها وحياؤها
فقال الداعي محمد بن زيد: أو غير ذلك إنه يشتم رائحة الخلافة من جبينه. انتهى.
قالوا: وكان الناصر -عليه السلام- لما دخل آمل و صار إماماً، ولىَّ الداعي الحسن بن القاسم [بن الحسن] بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن أمَّر جيشه الجميع لشهامته، وحسن بلائه بين يديه، وورعه، ودينه، ولأنه لم يكن من أولاد الناصر من يعتمد عليه في ذلك لأن أبا الحسن كان مع فضله في الأدب على غير طريقة السداد، وكان الناصر معرضاً عنه، منكراً لفعله، وأبو القاسم وأبو الحسين كانا صغيرين، فلما ترعرعا كان يستعين بهما فيما يجوز أن يستعان فيه من الشباب، ثم وقع بين الناصر وبين الحسن هذا وحشة، سببها أنه قدم ولده أبو القاسم، والقصة مشهورة خلاصتها:
أنه لزم الناصر واعتقله مدة، ثم أخرج عليه كرهاً، ولم يؤاخذه الناصر -عليه السلام- بل لما مرض استؤمر فيمن يقوم مقامه.(2/33)


وقيل له: يعهد إلى أحد أولاده، فقال: وددت أن يكون فيهم من يصلح، ولكن لا أستحل فيما بيني وبين الله [تعالى] أن أولَّي أحداً منهم أمر المسلمين والحسن بن القاسم أحقُّ بالقيام بهذا الأمر ثم توفي بآمل ليلة الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة أربع وثلاثمائة، وله -عليه السلام- أربعة وسبعون سنة، وكان آخر شعره قصيدة أولها:
أناف على السبعين ذو الحول رابع.... ولا بد لي أني إلى الله راجع
وصرت أبا جدٍ تقومني العصا.... أدبُّ كأني كلما قمت راكع
(2/34)


[من أخبار الإمام الداعي الحسن بن القاسم]
قال السيد أبو طالب: ثم قدم الداعي آمل في شهر رمضان يوم الثلاثاء لأربع عشرة خلت منه، فبدأ بقبر الناصر زاره، ثم بويع له ثانية، وهو يوم الأربعاء، وأظهر حسن السيرة في الأمور كلها من بسط العدل والإحسان إلى الأشراف، وأهل العلم والتشدد على أهل العبث والفساد على ما يضرب به المثل بطبرستان، فيقال: (عدل الداعي). وبقي في الأمر بعد الناصر اثنتي عشرة سنة وأشهراً، واستشهد سنة ست عشرة وثلاثمائة في شهر رمضان، وقد بلغ عمره اثنيتن وخمسين سنة.
قلت: وهو والد أبي عبد الله الداعي الآتي ذكره، فهذا الذي يضرب المثل بعدله، وقد ذكر السيد صارم الدين: أنه ولده، ولعلهما اتفقا في السيرة والمثل، والله أعلم.(2/35)

87 / 205
ع
En
A+
A-