فصل:وهذه خاتمة مناسبة لما تقدم
وقد وعدت بها، وهي أنه كان في شهر شعبان سنة خمس وتسعين وثمانمائة وقع مع الناس مرض كاد يعم، وهو من قبيل السابع يمرض الإنسان قدر سبع أو أربع عشرة، [يوماً] ثم يصح.
ولم يمت منه إلا القليل، وكثير وقوعه مع النساء والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، ومرض عدة من أصحابنا ونحن صحاح إلى نهار عيد الإفطار، وشرع بابنتين لنا في ساعة واحدة، ولهما في العمر من العشر فما دون، فقلنا: هذا نصيبنا وحمدنا الله على سلامة أخيهما يونس؛ لأنه عندنا في منزلة عظيمة، ولم يكن لنا غيره من الذكور، ولم يزل ذلك الوباء يرتفع وينقطع، ونحن نستبشر بانقطاعه شحاً على هذا الولد.
والوالد كما قيل شقي، فلما كان أول يوم من العشر في ذي الحجة في تلك السنة شرعت به الحمى، وقد كنا كالقاطعين بأن قد تعداه الشر، فبقي طول تلك العشر يجاهد والحمى فاترة.
فلما كان يوم العيد اشتد عليه المرض، وذهل عقله بعد ذلك، وقلت متعته وقلنا: هو يعرف في السبع الأول، أو في السبع الثانية، أو في السبع الثالثة، أو في السبع الرابعة والأمر يزداد.
وعلى الجملة فما زال سراجنا يقد وشجننا يكثر، اثنتين وثلاثين ليلة، يمضي علينا اليومان ما نطعم الزاد لا نحن ولا هو لما به من شدة المرض، وأعيتنا الحيل في أمره، وعاده جميع قراباتنا وأصحابنا، وأشجنوا كشجننا.(2/21)
فكان في بعض الأيام ضاقت بي جوانب البيت، فخرجت المقبرة [فما وسعني وما دريت ما أدعوا به أهل المقبرة] وداخلني اليأس والقنط، فلم ألق حيلة إلا قصد مسجد الهادي أول الظهر فصليت فيه الظهر، وما تيسر في صرح المسجد قريباً من القبة فلقيني بعض الإخوان ممن قد علم بمرضه فسألني عنه فخنقتني العبرة، وأجهشت بالبكاء حتى سمعني من كان بالمصلى والقبة، ثم دخلتها باكياً، ولازمت التابوت فقلت: يا هادياه، [يا هادياه] بصوت مرتفع بقيت على ذلك ساعة، ثم سلمت أجرة [قراءة] ختمة إلى يد أحد العميان المجاورين للهادي، وهو من أهل الصلاح، وقلت له: اقرأ لي بهذه اليوم وغداً ختمة، ووصيتك الدعاء، فرَّق لي؛ لأنه كان يسمع ابتهالي.
ثم خرجت من القبة، وقد برد ذلك التلهب الذي كان بقلبي، واستروحت نفسي.
فلما وصلت البيت ودخل الليل استقبلنا ما كنَّا نستقبله من معاناة مرضه، فاعتراه في تلك الليلة نافض خالف أضلاعه، وصاك أسنانه كما يعلم الله ونشهد أنه شيء ما عهدناه منذ مرض، فقلت في نفسي هذه المحقوقة ما هذا إلا من طلائع الموت؛ فبتنا بأسوأ حال باته مخلوق، فلما [كان] قرب الفجر أخذتني سنة خفيفة، فرأيت فيها أن محمداً على باب مسجد الهادي [الشرقي وجملاً باركاً تحته، والمحمل] مغطى بتغطية لها نور عال، وهي ثياب بيض كلها، عرفت في المنام منها ثوب لي للعيد، وهو رفيع أبيض، فدقني الذهن، وتلك الحال بين عيني، فلم يسبق ذهني إلا إلى أن تلك أمارة موت أو جنازة فازداد غمي.(2/22)
فلما كان وقت الغداء وأنا عنده عرض عليَّ الغداء وفيه قطعة من سمك وقطعة شوى فعرضت عليه بعض ذلك تبختاً وهو زايل العقل كعادته ففتح فاه وازدرد من تلك القطع واحدة صغيرة ثم فتح فاه، وأومأ إلي أن زد، ثم ثنى الإيماء فنتفت له شيئاً يسيراً من النوعين، فأخذ منهما ومن طرف رغيف ما كتب الله، ونحن حوله فازداد فرحنا، واستقر بنا الفرج، واستمر من تلك الساعة ما أتى عونه إلا وأكل منها فوق ما أكل من الأولى وجاءت العافية وكنا منتظرين العرق أو رعاف فلم يكن شيء من ذلك إلا بعد أن تعافى بقدر نصف شهر، ثم استمر به العرق فعجبنا من هذه الكرامة، واعتقدنا أن ذلك المحمل غارة من الهادي -عليه السلام-، فنظمت هذا الشعر الآتي ذكره، وأنشدته في مسجد الهادي وغيره، وتناقله عدة من الأصحاب.
ثم رأيت بعد ذلك في النوم بعض فضلاء أهل البيت، يقول لي: [يا محمد، أنت] في جاه رسول الله ً.
فقلت: لِمَ؟ فقال: بسبب الشعر الذي أنشدته في الهادي -عليه السلام-.
فهذا [مضمون] ما كان من مرض الولد، وما وقع فيه من الغارة الهادوية الخارقة للعادة.
[وهي] هذه القصيدة نفع الله بها وبمن قيلت فيه:
إن كنت ترغب في غوث وإمداد.... لكل خاف من المكروه أو بادي
أو ترتجي النفع في مال وفي سكن.... أو تدفع الضر عن أهل وأولادِ
فلذ بمشهد يحيى بن الحسين وقل.... برفع صوتك يا غوثاه يا هادي
يا هادياه، ويا من حل ساحته.... من كل داعٍ إلى حقٍ وإرشادِ
ومن شهيد ومن علاَّمة علم.... ككوكب في ظلام الليل وقَّادِ
قوموا بنصري وجدوا في معاونتي.... وسارعوا في تخلاصي وإنجادي(2/23)
فهم يجيبون من يدعوهم طمعاً.... في جاههم ما وفى حر بميعادِ
ويسمعون دعا العاني الأسير إذا.... ما صار في ضيق أغلال وأصفادِ
قوم بهاليل لا يخشي النزيل بهم.... من حادثات الليالي حزَّ أو رادي
وجارهم لا يخاف الضيم محترم.... وأعز من لبدة الضرغام في الوادي
دعوتهم لمهم قد برى جسدي.... وفت من عظمه عظمي وأعضادي
وقلت يا سادتي ابني ومعتمدي.... ومن أعدَّ لإصداري وإيرادي
والنور من ناظري والروح من جسدي.... ومن لرؤيته تهتز أكبادي
قد أطبقت فوقه الحمى مسىً وضحى.... فما له غير شرب الماء من زادي
فاستنقذوه سريعاً من مخالبها.... يا سادتي وأجيبوني بإسعادي
وبادروا واشفعوا لي عند خالقه.... يبقيه لي عمري شفعاً لإفرادي
فرحت من مسجد الهادي وقد نفثت.... بشرى الإجابة في روعي بإبرادي
مصداق ما روت الأثبات في خبر.... عن النبي بإرسال وإسنادِ
إن الأمارة في قبلان كل دعا.... سكينة مثل برد الماء للصادي
وبعد ذلك لم تبرح تكرر لي.... بشائر في تصاريفي وتردادي
حتى إذا ليلة واشتد بي قلقي.... من طول مرضة شبلي أي إشدادِ
رأيت في النوم نوراً صادعاً وإذا.... من تحته محمل يحدوا به الحادي
مجللاً بثياب نورها بهج.... بيض ولم يك فيها ثوب إحدادي
بل كان فيها رديف كنت أذخره.... لجمعتي ومسراتي وأعيادي
وكان من ريشة الشرقي مخرجه.... وكان من جهة المطراق إصعادي
ثم انتبهت وتلك الحال راسمة.... في خاطري مثل طي الوجه بالحادي
فداخلتني لهذا روعة حذراً.... من أن يكون مناماً عكس مرتادي(2/24)
فما أضا الصبح والحمى لها أثر.... ولا طريق إلى شبلي بإفسادِ
وسار من ذلك الإصباح منشرحاً.... مستعلياًكل يوم أي مزدادِ
من غير ما عرق تجري هواطله.... ولا رعاف لهذا الجنس معتادِ
فقلت حمداً لربي قد أتى فرجي.... وما على عرق تعويل قصادِ
وذا دليل ليحيى بن الحسين على.... فضائل لم تكن تحصى بتعدادِ
وإن ربي قد أعطاه في ولدي.... ما يخرق المسلك المعهود والمعادِ
[وذا قليل إلى الهادي وعترته.... وكل جيرانه روحي لهم فادي]
أفديك يا صاحب التابوت من علم.... يحلو بتأبينه شعري وإنشادي
يا درة التاج في أبناء فاطمة.... ويا إمام لأبدال وأوتادِ
ويا مقيم عثار الدين ينعشه.... وناقم الثأر من شانٍ وأضدادِ
وناشر العلم في شام وفي يمن.... وحارس الشرع من كفر وإلحادِ
مفني القرامطة الطاغين مهلكهم.... لما وقفت لباغيهم بمرصادِ
طمست رسم علي بن الفضل فانعصفت.... رياحه بعد إبراق وإرعادِ
وكان قد طبق الآفاق مذهبه.... واشتد فيها بأطناب وأوتادِ
وطال ما ملئت رعباً لهيبته.... وما اشتكت منه من عبث وإفسادِ
كان المؤذن في أثناء موكبه.... يدعو ابن فضلٍ رسول الله يا غاد
بل ادعى أنه رب العباد فهل.... وراء ذا القول يا للناس من هادِ
فقمت تمعن في استيصال شأفته.... إمعان هودٍ على عادٍ وشدادَ
فالله يجزيك عن مسعاك أفضل ما.... جزى إماماً على تقيم ميَّادِ(2/25)