وما زال أبو طاهر يعبث في البلاد، ويقتل ويأسر إلى سنة سبعة عشر وثلاثمائة فحج الناس وسلموا في طريقهم، ثم وافى يوم التروية بمكة فنهب الناس، وقتلهم حتى في المسجد الحرام، وفي نفس البيت، وقلع الحجر الأسود، وأنفذه إلى هجر وخرج إليه أمير مكة في جماعة من الأشراف، فقتلهم جميعاً، وقلع باب الكعبة، وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب فسقط ذلك الرجل ومات، وطرح القتلى في زمزم، ودفن الباقين في المسجد الحرام من غير كفن ولا غسل ولا صلاة، وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه، ونهب دور أهل مكة.
فلما بلغ ذلك المهدي عبيد الله صاحب إفريقية كتب إليه ينكر عليه ويلومه، ويلعنه، ويقيم عليه القيامة، ويقول له : حققت علينا الكفر واسم الإلحاد بما فعلت، وإن لم ترد على أهل مكة والحاج، وغيرهم ما أخذت منهم، وترد الحجر الأسود إلى مكانه، وترد كسوة الكعبة، وإلا فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة.
فلما وصله هذا أعاد الحجر إلى مكانه واستعاد ما أمكنه من أموال أهل مكة فرده، وقال: أخذناه بأمر، وأعدناه بأمر.
وقد كان أمير بغداد والعراق بذل لهم في رده ألف دينار فلم يردوه، ثم ردوه الآن، ولما أخذه تفسخ تحته ثلاثة جمال قوية من ثقله، ولما ردوه أعاده على جمل واحد [و] وصل به سالماً.
قال ابن خلكِّان: ولعل الكاتب إلى القرمطي برده ولد عبيد الله المهدي، لأنه توفي في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وكان ردُّ الحجر في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.(2/16)
قال ابن الأثير: ولما عزموا على رده حملوه إلى الكوفة، وعلقوه بجامعها حتى رآه الناس، ثم حملوه إلى مكة، فكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة.
قال ابن الأثير: وعلى الجملة فالذي فعلوه في الإسلام لم يفعله أحد قبلهم ولا بعدهم من المسلمين، وملكوا كثيراً من العراق والحجاز، وبلاد الشرق والشام إلى باب مصر.
ثم قتل أبو طاهر في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.
والجنَّابي -بفتح الجيم وتشديد النون وبعد الألف باء موحدة - نسبة إلى جنَّابة بلد من أعمال فارس، متصلة بالبحرين، والقرامطة منها.
رجع الكلام إلى بقية ذكر علي بن الفضل
قال السيد يحيى بن القاسم الحمزي من أولاد الحمزة بن أبي هاشم في كتاب (كشف الأسرار وهتك الأستار من محجوب الباطنية الكفار) ما معناه:أن علي بن الفضل كان ممن يتهم في نفسه بالأبنة.
وروي عنه أشياء فظيعة، ثم حكى أن سبب موته كان على يدي السيد الشهيد علي بن محمد الحسني -رحمه الله تعالى-.
فإنه باع نفسه من الله لما رأى أفعال عدو الله فأعمل الحيلة، وتهيأ تهيئة طبيب عارف، وأوهمه أن به علة إن لم يفعل فيها بما أمره به هلك فأمره بفصد عرقين في رجليه وفصده بمبضع مسموم بسم قاتل، فما مضى عليه إلا قليل حتى بلغ الألم شغاف قلبه وهرب السيد بعد فصده حتى بلغ نقيل صيد فقتل هنالك شهيداً، ثم مات ابن فضل عقيب ذلك يوم الأربعاء للنصف من ربيع الآخر من سنة ثلاث وثلاثمائة.(2/17)
وأقام بعده ولده، فقام أسعد بن [أبي] يعفر في حربه فحاصره مدة، ثم قتله وأخاه وجماعه من أتباعه قدر نيف وعشرين رجلاً، وبعث برؤوسهم إلى العراق والخليفة إذ ذلك المعتضد في ذي القعدة سنة أربع وثلاثمائة سنة.(2/18)
فصل: في وفاة الهادي -عليه السلام-
قال علماؤنا: إنه لما قهر الأعداء، وقرر قواعد المذهب الشريف والدين المنيف.
وقد كان في اليمن مذاهب مختلفة قرامطة، وأباضية قوم من الخوارج، وجبرية فاستأصل الله بحميد سعيه أكثر أهل تلك المذاهب الردية، وأظهر مذهب العترة الزكية، فامتلأ اليمن عدلا، وتوحيداً، وإرشاداً، وتسديداً ومهدَّ قواعد السياسة النبوية تمهيداً، وأفنى المفسدين قتلاً وصلباً وتشريداً.
عرض له مرض شديد، قيل: إنه سم على يدي بعض خواصه، فقال له: هل استجدت الجعل؟
وكان مع هذه المرضة الشديدة لم تتغير جلسته، فمات يوم الأحد لعشر باقية من ذي الحجة آخر سنة ثمان وتسعين ومائتين ودفن يوم ثاني، وهو يوم الإثنين قبل الزوال عن ثلاث وخمسين سنة، ودفن في غربي المسجد الجامع بصعدة هكذا في (الحدائق الوردية).
ولعل صفة المسجد قد كانت مغايرة لصفته الآن، لأن قبة الهادي عليه السلام- في هذا التأريخ يمانية الجامع.
وقد رأيت بعض من يزور من الهادي عليه السلام لا يدنو من القبة قليلاً بزعمه أن جسده الطاهر مدفون بقرب عتبة الباب، والظاهر خلاف هذا الوهم فإن صعدة في أيدي العترة منذ مات الهادي، وإن تخلل ملك غيرهم لها فمدة يسيرة لا يلتبس في قدرها موضع قبره.(2/19)
وعلى الجملة فأينما كان [موضع] قبره تقدم قليلاً أو تأخر يسيراً، فقد ملئ من اليمن والإيمان، واشتهرت بركته في جميع الأزمان، وافتخرت به الزيدية على جميع المذاهب والأديان، وأختص أهل صعدة بمشاهدته، والتمسح بزيارته في كل أوان، فهو لهم جنة من طوارق الحدثان، وملجئاً عند تراكم المحن، وهجوم الظلم والطغيان، وفيه، وفي قبر الناصر الأطروش، يقول بعض الشعراء:
عرَّج على قبر بصعدة.... وابكِ مرموساً بآمل
واعلم بأن المقتدي بهما.... سيبلغ حيث يأمل(2/20)