فصل: في ذكر طرف من حكمته[-عليه السلام-]
من ذلك قوله : " أصل الخشية لله سبحانه العلم، وفرعها الورع، وفرع الورع الدين، ونظام الدين محاسبة النفس، وآفة الورع تجويز المرء لنفسه الصغيرة من فعله، وأصل التدبير هو التمييز، وأصل التمييز الفكرة، ومن لم يجد فكره لم يجد تمييزه ومن لم يجد تمييزه [بما ركب من عقله] لم يستحكم[له] تدبيره، والعقل كمال الإنسان، والتجربة لقاح العقل، ومن لم ينتفع بتجربته لم ينتفع بما ركب فيه من عقله، وشكر المنة زيادة في النعمة، والنعمة لا تتم لمن رزقها إلا بشكر موليها، ومن أغفل شكر الإحسان؛ فقد استدعى لنفسه الحرمان، ومن أراد أن لا تفارقه نعمة الله فلا يفارق شكر الله، وحسن الرأي التأني، وآفته العجلة إلا عند بيان الفرصة، ومن علم ما لله عنده لم يكد يهلك، ومن أراد ينظر ماله عند الله فلينظر ما لله عنده، ثم ليعلم أن له عند الله مثل ما لله عنده قال الله سبحانه :{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }.. الآية [الأنعام:160].
وجودة اللسان زين الإنسان، وحياة القلب أصل البيان، ومن نظر في عواقب فعله نجا من موبقات علمه، وصاحب الدين مرهوب، وصاحب السخاء محبوب، وصاحب العلم مرغوب إليه، وذو النصفة مثنى عليه، ومن كفى الناس مؤنة نفسه كفاه الله مؤنة غيره.
ومن خضع وتذلل لله فقد لبس ثوب الإيمان، ومن لبس ثوب الإيمان فقد لبس ثوب العزة من الرحمن، قال الله سبحانه :{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }[المنافقون:8].(2/6)


ومن رزق نزاهة النفس فقد أعطى عوضاً عن العبادة، ومن وفق للصبرعند البلاء؛ فقد خفت عليه المحنة العظماء، ومن أراد من الله التسديد والتوفيق فليعمل لله بالإخلاص والتحقيق، والعلم والحكمة لا ينموان مع العصبية والجهل والحيرة؛لا يقيمان مع الطاعة، ومن وفق أمن من الزلل، ومن خذل لم يتم له عمل، ولم يبلغ غاية من الأمل، ومن قوي باطن قلبه لم يضره ضعف بصره، قال الله تعالى:{فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }[الحج:46] إلى آخر ما ذكره -عليه السلام-.
فله في هذا المعنى اليد الطولى وإنما أردنا التبرك بكلامه.(2/7)


فصل: في نبذة من أشعاره
فمن ذلك ما تقدم الوعد به، وهو قوله:
طرقت لعمرك زاهر مولاها.... والحرب مسعرة يشب لظاها
طرقت تبختر في الحلي وفي الكسى.... إن الخريدة همها وهواها
تكسو مناكب زانها أعجازها.... عند التعانق حلة ورداها
أقني حيأكِ فحلتي يوم الوغى.... درع أعانق جيبها وعراها
نحن الفواطم لهونا طعن القنا.... ومدامنا حرب تدور رحاها
هلا سألتِ فتخبري إن لم تري.... إذ صار يطلب مهجتي أعداها
لاح الصباح وأبرقوا بكتيبة.... شهماء تدفق خيلها وقناها
والجيش في أيديه كل عقيقة.... القين أحكم سنها وجلاها
والمشرفية في أكف حماتها.... تحكي البوارق لمعها وسناها
والخيل تنحط بالفوارس والقنا.... فوق الفوارس في الوغى أجراها
ومنها :
غربت أنامل راحتي بصفيحتي.... لله در خبثعنٍ أغراها
ما كان إلا بطحة فتراكبت.... أولى كتائبها على أخراها
وانقض جمع خميسهم عن وقعة.... فيها النيار تأججت أحشاها
ومن ذلك قوله -عليه السلام-:
الخيل تشهد لي وكل مثقف.... بالصبر والإبلاء والإقدام
حقاً ويشهد ذو الفقار بأنني.... أرويت حدَّيه نجيع طغامي
علاً ونهلاً في المواقف كلها.... طلباً بثأر الدين والإسلام
حتى تذكر ذو الفقار مواقفاً.... من ذي الأيادي السيد القمقام
جدي علي ذي الفضائل والنهى.... سيف الإله وكاسر الأصنام
صنو النبي وخير من وارى الثرى.... بعد النبي إمام كل إمام
وقال -عليه السلام- وأمر بها إلى بني الحارث بنجران، مع كتاب:
خذوا حذركم مني فإني مسير.... إليكم جنود الله والله غالب(2/8)


يسيرون للباغين حرب محمد.... عساكر يملا الأرض منها المقانب
على شزب تعدوا بكل سميدع.... بأيديهم البيض الرقاق القواضب
وخطية زرق العوالي جنابها.... مخوف لدى الأبطال ما أن يقارب
بأيدي رجال أهل بأس بخوفهم.... تشيب لذي الحرب العوان الذوائب
[وما حبسها إلا فراق لأرضكم.... وتجلب حولي للمسير الكتائب]
وتلفونني مستنصراً في جهادكم.... وعندكم مني لعمري التجارب
فلم أر مثل الحرب أوقد نارها.... أخو عزة دارت عليه المصائب
قوي على تأجيجها بدو أمره.... ضعيف إذا اشتدت عليه العواقب
يعنف من يأبى عليه اجتلابها.... ويسلبه إن كان يوماً يقارب
يضرمها حتى إذا ما تأججت.... وعاينني ضاقت عليه المذاهب
فيطلب سلمي حين لا سلم والذي.... إلى بيته بالركب تهوى الرغائب
أراد خلاصاً بعدما غص بالذي.... جنت يده فهو الشقي المطالب
فلا تحسديه أكلة إن غذى بها.... تُقيَّيْه إياها الرماح الزواغب
فويل لمن أمسى يهم بحربنا.... وويل لمن لم يدرِ من ذا يحارب
يحارب ضرغاماً يحامي على شبل.... له صولة مخشية ومخالب
قروس لمن أدناه حتف لقاؤه.... له حملات قرنه منه خائب
يدانيه جهال الرجال بحربه.... ومن كان ذا علم به فهو هارب
ومن شعره -عليه السلام- [قوله] :
فما العز إلا الصبر في حومة الوغى.... إذا برقت فيه السيوف اللوامع
هل الملك إلا الأمر والعز والغنى.... وأفضلكم من هذبته الطبائع
ومن لم يزل يحمي وينقم ثأره.... ومن هو في الحالات يقظان هاجع
يقلب بطن الرأي فيه لظهره.... ويمضي إذا ما أمكنته المقاطع(2/9)


ونحن بقايا المرهفات وسورها.... إذا كان يوماً ثائر النقع ساطع
يموت الفتى منَّا بكل مهند.... واسمر مسنون الشبا وهو دارع
فتلك منايانا وإنَّا لمعشر.... من الناس في الدنيا البدور الطوالع
أبونا أمير المؤمنين وجدنا الر.... سول الذي منه تتم الصنائع
نهضت ولم أعجز وقلت مواعظاً.... ذخائر علم إن وعاهنَّ سامع
فكم قائل في نفسه وضميره.... أيا قائلاً في ذا كلامك ضائع
فكيف غناء الكف عند اجتهادها.... إذا لم تعنها بالفعال الأصابع
بنيت لهم بيتاً من المجد سمكه.... دوين الثريا فخره متتابع
وأضحى لهم عز به ومفاخر.... وذكرٌ ومجدٌ شامخ الفضل نافع
نعشت كتاب الله بعد هلاكه.... فليس بغير الحق يزمع زامع
أليس عجيباً أن يُسالم ظالم.... ظلوم لأهل الحق والحق خاضع
قتيل ذليل أهله ومضيع.... فساحته قفر قواء بلاقع
وعطله أنصاره وحماته.... فقد درست أعلامه والشرائع
وآل رسول الله قد شغلتهم.... عيون وأموال لهم ومزارع
[ومنها] :
وحقد وإحياء الضغائن بينهم.... ولم يجمعوا فيه وقل التطاوع
أرى الطالبيين الأسود تخاذلوا.... فمنهم مدان للعدى ومصانع
ولم يطلبوا إرث النبوة بالقنا.... ولم يمنعوه والرماح شوارع
أرى حقهم مستودعاً عند غيرهم.... ولا بد يوماً أن ترد الودائع
ولكنهم أمسوا وأضحوا كآيس.... يداري ويعطي تافهاً وهو قانع
شديد عظيم أن تصيروا أذلة.... وأنتم ليوث حين تخشى الزعازع
وأعداؤكم في غبطة وغضارة.... وعيش على حافاته الملك ذائع(2/10)

82 / 205
ع
En
A+
A-