قالوا: ولما همَّ بالرجوع، قال: (فكرت في نفسي في إقامتي باليمن، فقلت: الناس منهم أسد، ومنهم ذئب، ومنهم ثعلب، ومنهم شاة، فنظرت فيهم فإذا أحكمهم عليهم، وأقومهم هو الأسد، فكان أحبهم إليَّ جواراً، فنزلت صنعاء فجاورت ابن الضحاك، فقال لي: ادع إلى مذهبك، وأظهر حب أهل بيت نبيك، وتكلم بما تريد، ولا تخف من هذه العامة الجبرية).
قالوا: فدخل جامع صنعاء وتكلم ودعا إلى مذهب الهادي فاستجيب له فلم يلبث أن صار له حزب وشيعة يصلي بهم في المسجد.انتهى.(2/1)


فصل: في ذكر طرف من سيرته -عليه السلام -
في الرواية أن أبا العتاهية صاحب صنعاء عطش يوماً فأتاه وزيره بماء، فقال له: لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ فقال: بنصف مملكتي. فشربها.
وقال له: لو لم تخرج من جسدك بكم كنت تشتري خروجها؟ قال : بالنصف الآخر، فقال: ما ملكت لا يساوي شربة فانتبه، وقال : فما نصنع؟ فقال: نبعث إلى شريف ينزل بالرس يقال له: يحيى فلعل الله ينجيك به فراسله، فخرج الهادي -عليه السلام- فبايعه هو وعشائره، وأهل ناحيته، وقاتل بين يديه مختلعاً من الأمر.
وروي أنه لما دخل الهادي عليه السلام صعدة فأقام فيها آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، وولى ولاته الجهات، ورسم لهم الرسوم، ثم افتتح نجران وأقام فيها مدة وعاود إلى صعدة، وكان يتولى كثيراً من الأمور بنفسه سالكاً في ذلك طريق المتواضعين، حسن الانصاف للمظلومين من الظالمين.
قال مصِّنف سيرته: رأيته ليلة وقد جاء رجل ضعيف في السحر يستعدي على قوم فدقَّ الباب، فقال: من هذا يدقُّ الباب في هذا الوقت؟
فقال له رجل كان على الباب: هذا رجل يستعدي، فقال: أدخله. فاستعدى فوجه معه في ذلك الوقت ثلاثة رجال يحضرون معه خصومه، فقال لي: يا أبا جعفر، الحمد الله الذي خصَّنا بنعمته وجعلنا رحمة على خلقه، هذا رجل يستعدي إلينا في هذا الوقت لو كان واحداً من هؤلاء الظلمة ما دنا إلى بابه في هذا الوقت مشتكٍ ثم قال: ليس الإمام منَّا من احتجب عن الضعيف في وقت حاجة ماسة.(2/2)


وروى السيد أبو طالب بإسناده، عن علي بن العباس أنه قال: كنَّا عنده يوماً وقد حمى النهار وتعالى وهو يخفق رأسه فقمنا، فقال: أدخل وأغفو غفوة، وخرجت لحاجتي، وانصرفت سريعاً إلى المجلس الذي يجلس فيه الناس، فإذا أنا به في ذلك الموضع، فقلت له: في ذلك، فقال: لم أجسر أن أنام ولعل بالباب مظلوماً فيؤاخذني الله بحقه.
وروى السيد أبو طالب بإسناده عن أبي الحسين الهمداني وكان رجلاً فقيهاً على مذهب الشافعي، يجمع بين الفقه والتجارة، قال: قصدت اليمن وحملت ما أتجر فيه هناك ابتغاءاً لرؤية الهادي -عليه السلام- لما كان يتصل بي من أخباره فلما وصلت صعدة قلت لمن لقيت من أهلها: كيف أصل إليه؟ وبم أصل؟ وبمن أتوسل؟ فقيل لي: الأمر أهون مما تقدَّر، ستراه الساعة إذا دخل الجامع للصلاة بالناس، فإنه يصلي بهم الصلوات كلها، فانتظرته حتى خرج للصلاة فصلى بالناس وصليت خلفه.
فلما فرغ من صلاته تأملته فإذا هو قد مشى في المسجد نحو قوم أعِلاء في ناحية منه فعادهم، وتفقد أحوالهم بنفسه، ثم مشى في السوق وأنا أتبعه فغيرَّ شيئاً أنكره، ووعظ قوماً وزجرهم عن بعض المناكير، ثم عاد إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه من داره للناس، فتقدمت إليه فسلمت فرحبَّ بي، وأجلسني وسألني عن حالي ومقدمي؟ فعرفته أني تاجر، وأني وردت هذا المكان تبركاً بالنظر إليه، وعرف أني من أهل العلم فأنس بي.(2/3)


وكان يكرمني إذا دخلت إليه إلى أن قيل لي [في] يوم من الأيام هذا يوم الظلامات وإنه يقعد فيه للنظر بين الناس فحضرت فشاهدت هيبة عظيمة ورأيت الأمراء والقواد والرحالة وقوفاً بين يديه على مراتبهم.
وهو ينظر في القصص ويسمع الظلامات، ويفصل الأمور فكأني شاهدت رجلاً غير من كنت شاهدته، وبهرتني هيبته، فادعى رجل على رجل حقاً فأنكره المدَّعى عليه وسأله البينة، فأتى بها فحلَّف الشهود؛ فعجبت من ذلك.
فلما تفرَّق الناس دنوت منه، وقلت له: أيها الإمام، رأيتك حلَّفت الشهود. فقال : هذا رأي آبائي تحليف الشهود احتياطاً عند التهمة، وما تنكر من هذا، وهو قول طاووس من التابعين، وقد قال الله تعالى:{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا }[المائدة:107].
قال: فاستفدت في تلك الحال منه مذهبه، وقول من قال به من التابعين والدليل عليه، وما كنت قد عرفت شيئاً من ذلك قال: وأنفذ إليَّ يوماً من الأيام يقول: إن كان في مالك حق زكاة فأخرجه إلينا، فقلت: سمعاً وطاعة من لي بأن أخرج زكاتي إليه.
فلما كان بعد يومين بعث إليَّ واستدعاني، وإذا هو يوم العطاء قد جلس [له] والمال يوزن ويخرج إلى الناس، فقال : أحضرتك لتشهد إخراج زكاتك إلى المستحقين.
فقمت وقلت: الله الله أيها الإمام أتظنني أرتاب بشيء من فعلك؟ فتبسم وقال: ما ذهبت إلى ما ظننت، ولكن أردت أن تشهد إخراج زكاتك.(2/4)


قال: وقلت له يوماً من الأيام: أول ما رأيتك وأنت تطوف على المرضى في المسجد تعودهم، وتمشي في السوق، فقال: هكذا كان آبائي،كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وأنت إنما عهدت الجبابرة والظلمة.
قالوا: وكانت هذه عادته حتى طمع فيه الفسقة فتبايعوا على غيلته فرموه من الصومعة[بسهم] فدخل المسجد وأخطأه السهم.
فلما صلى بالناس واستقرأ خبرهم فخرجوا فلقطوا النبل من باب المسجد. فقال: اللهم، إني أملت أن أسير فيهم سيرة الاختلاط، وأن أتولى أمرهم بنفسي ولا أكلهم إلى غيري، فبدأوا بالمكيدة فيَّ فإني ضارب الحجاب، ومتحرز حتى يحكم الله بيننا.(2/5)

81 / 205
ع
En
A+
A-