وستأتي وفي الحكاية أنه لما بايعه أبو العتاهية واستقر في صنعاء كره الخواتيم وغيرهم دخوله صنعاء، واصطفوا قدام داره وهو في مجلس مشرف عليهم، فأتاه أبو العتاهية فقال: يا ابن رسول الله، لا تعجل فإني أرجو أن يؤول الأمر إلى المحبوب، فقال له: أنفذ إليهم فاصرفهم عن موضعهم، فوالله لئن برزت إليهم لأنظمهم في رمحي كما تنظم الجراد في العود، وخرج أبو العتاهية إليهم فناشدهم الله، فلم يقبلوا ورموه بالحجارة والنبل، فاجتمع منهم من الغوغاء وأهل الباطل عشرة آلاف راجل وستمائة فارس ثم وقع القتال بالقرب من دار الهادي -عليه السلام- وجعلوا يرمون كوى في مجلس الهادي بالنشاب، والحجارة فأتى أبو العتاهية إلى الهادي، وقال : اركب جعلت فداك، فركب وأمر ابنه المرتضى فركب، وكذلك أصحابه وخرجوا من داره فلما عاينهم القوم وقد كانوا هزموا أصحابه حتى أدخلوهم الدار، ثم رجعوا إلى موضعهم فحمل عليهم الهادي- عليه السلام- وحده ومعه رجل من أصحابه، فلما قارب القوم وقف عنه صاحبه، ومضى الهادي فطعن أول من لقيه من القوم فقتله، ثم طعن آخر ثم آخر حتى طعن منهم ثلاثة من خيارهم، ثم لحق الخيل فطعن فارساً منهم فطرحه، وكان طعنه لهؤلاء القوم في حملته التي حمل عليهم، فصدق قوله، فنظمهم في رمحه كما وعدهم.
قال الراوي: فسمعته يقول بعد ذلك: ما ندمت على شيء قلته إلا قولي لأبي العتاهية (إن خرجت إلى هؤلاء الكلاب نظمتهم….) الخبر.(1/396)


وفي آخره: وقد آليت أن لا أتكلم بمثل ذلك أبداً، فانهزم الخصوم حتى خرجوا من صنعاء وهو في آثارهم يطردهم، وقتل عسكره منهم جماعة في الجبانة.
وفي الرواية أنه كان -عليه السلام- قد بعث عاملاً له إلى برط، فمنعه بعض أهلها من صلاة الجمعة، فخرج الهادي إلى برط فدخله، وليس له إلا ثلاث طرق وأهله دهمه فوقف العسكر في مكانٍ وتقدم في ثمانية فوارس وستة وعشرين راجلاً، فقال للقوم: بيننا وبينكم كتاب الله، فإن لم تطيعوا فخلوا بيننا وبين الماء، فأبوا ورموهم ؛ فحمل عليهم، وقتل ثلاثة، وأسر جماعة، وانهزم القوم، فسلبهم العسكر وهموا بقتلهم، فصاح: من قتل قتيلاً فهو به، فسئل عن ذلك؟ فقال: ليس لهم فئة أي أمير، فطلب القوم الأمان والبيعة، فقبل منهم، وجمع عسكره، وقال: السلب لكم حلال، لكن هبوه لي أتألفهم به، وأرجو أن أعوضَّكم به ففعلوا، وأقام ثلاثاً لم ينزل على أحد حتى أكلت خيل عسكره العوسج، حتى أن جملاً لبعض عسكره دخل زرع رجل، فقال: لأخبرنَّ الهادي، فقال صاحبه: ليس لي، فأخذه وذهب، فناداه الرجل: خذ جملك ثم رجع إلى صعدة، فحاربه الأكيليون وبنو كليب والمهاذر، والعويرات، والبحريون، وكذا بعض بني جماعة، وانحازوا إلى حصنين بعلاف والثور فأمر بهدم منازل الأكيليين، وقطع أعنابهم، فصرخ ابن عباد بالربيعة فتحصنوا بالحصنين، ثم خرج بعد أيام إلى فروة وقطع أعناب الأكيليين، ثم خرج إلى علاف فهربوا عنه وتحصنوا بموضع يقال له: أفقين ثم قاتلهم بعد أيام وأمر برؤوس القتلى، ثم علم بدواب للمهاذر بأفقين فأمر بالغارة عليها، فأخذت فخمَّسها، ثم قسمت فاستأمن(1/397)


المهاذر، فرد عليهم الخمس، ثم قصدهم مرة أخرى، فقيل له: إنهم بمكان لا قتال فيه، فقال للطبريين: هبوا لي أنفسكم ساعة فانعموا، فقيل له: إنك تحمل أصحابك على الهلكة، قال : سوف نسركم بعد قليل إن شاء الله تعالى، فطلع عليهم الجبل هو والطبريون، فهزموهم إلى حصن النميص فلما نظر الأكيليون الأمر خرجوا من علاف ونزل عليهم إلى بطن وادي علاف فأمر بهدم قرية النميص فحرقت، ونهبت، وقطعت الأعناب، وأمر بني كليب بإخراج الأكيليين، وكانوا في جبل يسمى العدنة ثم حلف له الأكيليون على الحق، وأن لا يتركوا كليباً في بلدهم.
ومن فرط شجاعته -عليه السلام-: أنه قال لأصحابه -في بعض أيام حربه لعلي بن فضل القرمطي- قد لزمنا الفرض في قتال هذا الرجل، فجبن أصاحبه عن قتالهم واعتذروا بقلة عددهم، وكثرة عدد أولئك، وكان المقاتلة من أصحابه ألف رجل، فقال: أنتم ألف، وأنا أقوم مقام ألف، وأكفي كفايتهم، فقال له أبو العشائر من أصحابه -وكان يقاتل راجلاً-: ما في الرجال أشجع مني، ولا في الفرسان أشجع منك، فانتخب من الجميع ثلاثمائة وسلحهم سلاح الباقي حتى نبيَّتهم، فإنا لا نفي بهم إلا هكذا، فاستصوب رأيه، فأوقعوا بهم ليلاً وهم ينادون بشعاره -عليه السلام- {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }[الحج:40] ومنحوه أكتافهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغنم منهم شيئاً كثيراً.
وله -عليه السلام-: ليلة تشبه ليلة الهرير لأمير المؤمنين علي -عليه السلام- في وادي المعمة.(1/398)


روي أنه قتل فيها بنفسه مائة قتيل، وقتل ولده المرتضى ما يدنو من ذلك، وقد كان معه جماعة من الطبريين خرجوا معه من طبرستان، ومنهم فضلاء وعلماء، وشهداء، ولهم معه جهاد عظيم.(1/399)


[ذكر العلامة أحمد بن موسى الطبري]
منهم الشيخ العلامة: أبو الحسين الطبري.
وعلى يده انتشر مذهب الهادي في اليمن، وبينه وبين علماء المذاهب مراجعات ومناظرات، وكان سكونه في آخر مدته بصنعاء.
تنبيه
وإذا قد عرض ذكر الشيخ أبو الحسين الطبري فلنذكر ها هنا نبذة من شأنه وشأن أصحابه.
قال بعض العلماء: إن جماعة من الطبريين خرجوا مع الهادي -عليه السلام- من طبرستان كما تقدم للجهاد بين يديه، فقتل منهم من قتل شهيداً، ورجع منهم من رجع إلى بلاده بعد سقوط فرض الجهاد، وبعد موت ابني الهادي. وكان ممن بقي منهم باليمن الشيخ الصدر العلامة شيخ الإسلام، وعماد العدل والتوحيد: أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري، فكان له من العناية بإحياء الدين باليمن أضعاف ما كان منه في حياة الهادي وولديه المرتضى والناصر -عليهما السلام-.
قال: وقد كان همَّ بالرجوع من اليمن إلى بلاده إذ كانت دار آبائه ومنزل قومه، وبها نشأ فرأى في ذلك رؤيا زجرته عما همَّ به؛ وذلك أنه ساء ظنه بشيء من أمور أهل اليمن، فهمَّ بالخروج عنها فهبط تهامة، يريد الاستعانة على سفره بنائل[من] سلطان زبيد، وهو يومئذٍ الحسين بن سلامة مولى آل زياد، فلما قدم تلك البلاد أمسى ليلة من لياليه في بعض دورها، فرأى في نومه كأن الهادي إلى الحق –عليه السلام- قد وقف عليه يقول له:" يا أبا الحسين، تخرج وتترك التعليم بأصول الدين باليمن، اتق الله، ودع عنك هذا " فانتبه مذعوراً لذلك، وكرَّ راجعاً إلى صنعاء وصعدة وأعمالها ولم يدخل على الملك.(1/400)

80 / 205
ع
En
A+
A-