فصل: في ذكر بعض خصائصه -عليه السلام-
كان له خصائص وكرامات تكشف عن علو منزلته عند الله تعالى، فمن ذلك ما رواه مصنِّف سيرته [-عليه السلام-] عن بعضهم قال: كان لي ابن صغير لم يتكلم، وطلبت الدواء له بكل حيلة فأعياني، فعزمت على حمله إلى مكة، فكنت على ذلك إذ أتى كتاب الهادي، فأخذنا خاتمه، فوضعناه [في ماء] فسقيناه الصبي فأفصح بالكلام، فحدَّث بذلك الناس، وشاهدوا الغلام وهو يتكلم، وقد كان شاهده بعضهم قبل ذلك وهو لا يتكلم.
قلت[و] أنا: وقد جرى لي قصة وقد مرض ولدي فتوسلت بالهادي -عليه السلام- فعوفي، وسأذكرها قريباً فإنها من مشبهات المعجزات، وليس الخبر كالعيان.
وروى مصنِّف سيرته عن بعضهم، قال: سمعت رجلاً يقع في الهادي، وينتقصه في أصله، فما مكث[إلا] أياماً حتى أخذه الله ببلاء، فانقطعت رجله قبل أن يموت، ثم مات بعد ذلك.
قال: وسمعت أيضاً أن امرأة تكلمت بكلام سوءٍ، فقامت سحراً فأخذتها النار فاحترقت.
وروي أيضاً : أنه كان بنجران فأتي بصبي قد ذهب بصره بجدري فأمر يده على بصره ودعا له؛ فأبصر الصبي.
وروي أيضاً أنه –عليه السلام- كان في أرض لا ظلال بها ولا شجر، وكان يوماً شديد الحر، كثير السموم، فأنشأ الله سبحانه سحابة فركدت فوق رأس الهادي –عليه السلام- وأصحابه فأظلهم الله بها في ذلك اليوم وما زالت مظلة حتى راح وكانت السماء مصحية ما فيها سحابة غيرها، فتعجَّب الناس مما رأوا.(1/391)
وروي أيضاً: أن رجلاً من بني ربيعة كان يكثر الرمي لأصحاب الهادي في يوم مْينَاِس فدعا عليه أن الله[تعالى] يقطع يده ؛ فتناصلت أصابعه إلى الرسغين فمات مما نزل به.(1/392)
فصل في حسن أخلاقه وطيب نفسه
فإنه -عليه السلام- كان حسن الفكاهة، طيب العشرة من صغره إلى كبره، لأنه لا نزق بغيض، ولا فظ غليظ، كان في حال صباه يدخل السوق، فيقول: ما طعامكم [هذا] ؟ فيقولون: حنطة؛ فيدخل يده في الوعاء، فيأخذ منه في كفه ويطحنه بيده، ثم يخرجه فيقول: هذا دقيق، وكان يأخذ الدينار فيؤثر في سكته بأصبعه ويمحوها، وكان على رجل له حق قبل قيامه فامتنع عليه، فأهوى إلى عمود حديد فلواه في عنقه، ثم سواه وأخرج عنقه منه.
قالوا : وكان وهو غلام صغير بالمدينة وكان طبيب نصراني يختلف إلى أبيه الحسين على حمار له يعالجه من مرض أصابه، فنزل عن الحمار يوماً وتركه على الباب، فأخذ يحيى الحمار وأصعده[إلى] السطح، فلما خرج الطبيب لم يجد الحمار، فقيل له: صعد به يحيى السطح، فسأله أن ينزله- فمن المثل السائر: إنما ينزل الحمار من صعد به-، فأنزله وقد دميت بنانه، فبلغ ذلك أباه فزجره، لأنه خاف عليه أن ترميه العيون.
قالوا : وكان قوياً يأخذ قوائم البعير المسن القوي، فلا يقدر البعير على النهوض، وكان يضرب بسيفه عنق البعير البازل الغليظ، فيبينه عن جسده.(1/393)
فصل: في شجاعته -عليه السلام-
اعلم أن شجاعته أشهر من أن تذكر في هذا المختصر، وأكثر من أن تصدر في دفتر وتحرر، فإنه كان إذا التقت الأبطال، وتداعت نزال، ألفيته القطب التي يدور عليها رحى القتال، وكم له من يوم أغر عاود فيه الكر، واستحيا من الفر، إذا حمي الوطيس كان أمام جنوده يضرب كبش الكتيبة، ويشاهد له كل حملة عجيبة.
ولقد صدق -عليه السلام- حيث يقول:
أنا ابن رسول الله وابن وصيه.... ومن ليس يحصى فضله ووقائعه
وقدماً ليوث الحرب فاقدت بينها.... بطعن وضرب ما تغب وعاوعه
وكان -عليه السلام- يضرب ضرب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عليه السلام-، ففي الرواية : أنه ضرب رجلاً في باب مِيْنَاس فحذف السيف من بين رجليه، فلما نظر إليه ابن حميد قال: استروا ضربة هذا العلوي، فوالله لئن رآها الناس لا تناصروا قلت: وهو الذي أشار إليه السيد بقوله:
نخبرك عن ضربات منه.... (البيت)
وفي الرواية: أنه أوقع -عليه السلام- بالباطنية نيفاً وسبعين وقعة حضر فيها القتال بنفسه.
وقد أشار إلى ذلك السيد صارم الدين، وفي الهادي -عليه السلام- يقول الشاعر الخيواني :
لو كان سيفك قبل سجدة آدم.... قد كان جُرّد ما عصى إبليس(1/394)
وطعن -عليه السلام- رجلاً فأمرقه، وانكسر الرمح، وبرز له رجل ذات يوم في بعض حروبه، فرفع الرجل يده بالسيف ليضربه، فأهوى عليه بيده فقبض بها على يد الرجل على مقبض السيف، فهشم أصابعه، ولما هزم جيشه يوم إتوة بأسباب خيانة من بعض من كان معه بقي في آخر الناس فلحقته فرسانهم، فكان من عرفه قل طمعه فيه، فجعلوا يطعنونه، وهو ينَّحي الرماح بسوطه، قال بعض أصحابه: يا سيدي، سل سيفك، فقال: ما كنت لأسله إلا أن أضرب به، فعاجله رجل برمحه، فلما ثبت فيه ثنَّى يده وكسر السنان، ورمى به في وجه الرجل.
وروى مصنَّف سيرته: أنه كان في بعض أيامه مع بني الحارث، وانتقوا من خيلهم ما يدنو من أربعين فارساً مدججة في السلاح، وأمروهم أن لا يقاتلوا ويقفوا، حتى إذا رأوا الهادي -عليه السلام- حملوا عليه، فبلغ الهادي خبرهم فلم يعبأ بهم، ولما رآهم قصدهم بنفسه، وحمل عليهم فما وقف له منهم فارس واحد، وأدرك منهم فارساً فطعنه، وألقاه هو وفرسه في أراكة، وانهزم القوم وعطف عسكره، وقتل من القوم بيده جماعة كثيرة لم يثبت عددها هو ولا غيره، غير أنه كسر ثلاثة رماح، وضرب بسيفه حتى امتلأ قائم سيفه علقاً، ولصقت أنامله على قائم سيفه بالدم، وفي ذلك يقول -عليه السلام- من قصيدة:
طرقت لعمرك زاهر مولاها
وستأتي في فصل شعره، وفي أخباره أنه انهزم عنه أصحابه في ريدة، فثبت في وجه عدوه في عدة يسيرة حتى عاد أصحابه، فقتلوا من القوم مقتلة عظيمة.
وقال في ذلك اليوم:
الخيل تشهد لي وكل مثقف.... بالصبر والإبلاء والإقدام(1/395)