قال: وكان محمد بن تومرت هذا قد اطلع على كتاب يسمى (الجفر) وأنه رأى فيه صفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى بمكان يسمى السوس، والرجل من ذرية رسول الله ً يدعو إليه يكون مقامه بموضع من المغرب يسمى اسم هجاء حروفه ت، ي، ن، م، ل ورأى في ذلك الكتاب أن استقامة ذلك الأمر واستيلاءه وتمكنه يكون على يد رجل من أصحابه هجاء اسمه ع، ب، د، م، و، م، ن وتجاوز في وقته المائة الخامسة للهجرة، فأوقع الله في نفسه أنه القائم بأولي الأمر، وأن أوانه قد أزف، فما كان محمد يمر بموضع إلا سأل عنه، ولا يرى أحداً إلا أخذ اسمه، وتفقد حليته، وكانت حلية عبد المؤمن معه فلما وافقه على هذه الصفة صحبه، واستوليا على أكثر المغرب، وبقية السيرة مذكورة في تأريخ ابن خلكِّان.
قال: وقد كان ابن تومرت في ابتداء أمره قد وصل إلى المشرق طالباً للعلم، فوافق الغزالي وغيره في العراق وأخذ منهم.
قال: وكان أول ظهوره ودعائه إلى الأمر سنة أربع عشرة وخمسمائة، وكان رجلاً ربعة، قضيفاً أسمر، عظيم الهامة، حديد النظر.
قال صاحب كتاب (المغرب في أخبار أهل المغرب) في حقه شعراً:
آثاره تنبيك عن أخباره.... حتى كأنك بالعيان تراه
قدم في الثرى وهمة في الثريا، ومهجه ترى إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيا، أغفل المرء يطول حله وربطه حتى دب دبيب الفلق في الغسق، وترك في الدماء دوياً، وأنشأ دولة لو شاهدها أبو مسلم لما كان لعزمه غير مسلم، وكان قوته من غزل أخته رغيفاً في كل يوم بقليل سمن أو زيت، ولم ينتقل عن هذا حين كثرت عليه الدنيا.(1/381)


ورأى أصحابه يوماً وقد مالت نفوسهم إلى كثرة ما غنموه فأمر بضم جميعه وأحرقه، وقال: من كان يسعى إلى الدنيا فليس له عندي إلا ما رأى، ومن كان يسعى للآخرة فجزاؤه عند الله، وكان على خمول زيه وبسط وجهه مهيباً منيع الحجاب إلا عند مظلمة، وله رجل مختص بخدمته والإذن عليه، وكان له شعر جيد فمنه:
أخذت بأعضادهم إذ نأوا.... وخلفك القوم إذ ودعوا
فكم أنت تنهى ولا تنتهي.... وتسمع وعظاً ولاتسمع
فيا حجر الشحذة حتى متى.... تسن الحديد فلا يقطع
وكان أكثر ما ينشد:
تجرد من الدنيا فإنك إنما.... خرجت إلى الدنيا وأنت مجردُ
وكان يتمثل أيضاً بقول المتنبي:
إذا غامرت في أمر مروم.... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير.... كطعم الموت في أمر عظيم
وبقوله أيضاً:
ومن عرف الأيام معرفتي بها.... وبالناس روى رمحه غير راحم
فليس بمرحوم إذا ظفروا به.... ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
[وبقوله أيضاً] :
وما أنا منهم بالعيش فيهم.... ولكن معدن الذهب الرغام
قلت: وإنما استطردت ذكر ابن تومرت لسبب ذكر كتاب (الجفر) ولأن شأنه كان إحياء معالم الدين كما كان ذلك شأن يحيى بن الحسين -عليه السلام- ولله القائل:
تعرض مختاراً وما كان ذاكراً.... لعهد اللوى والشيء بالشيء يذكر
[و] قال ابن خلِّكان، في ترجمة يزيد بن مزيد الشيباني : إن هارون أعطاه ذا الفقار يوم وجه لحرب الوليد بن ظريف الشيباني الخارجي وقال له: هذا ذو القفار سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خذه، فإنك ستنصر على عدوك، فأخذه فنصر، فقال مسلم بن الوليد:
أذكرت سيف رسول الله سنته.... وبأس أول من صلى ومن صاما(1/382)


يعني علياً -عليه السلام-، قيل: إنه أخذه يوم بدر من نبيه بن الحجاج لما قتله، وكان له، وقيل: أعطاه إياه رسول الله ً، وسبب مصيره إلى هارون أن النفس الزكية -عليه السلام -لما علم أنه مقتول يوم خرج عليه بنو العباس إلى المدينة، وكان عليه أربعمائة دينار لتاجر، فلما أحسَّ بالموت قال للتاجر: خذ هذا فإنك لا تلقى طالبياً إلا أخذه بحقك، فأخذه منه جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس وأعطاه الدنانير، ثم صار إلى المهدي، ثم إلى الهادي، ثم إلى هارون.
قال الأصمعي: قال لي هارون: ألا أريك ذا الفقار؟ قلت: بلى، قال استله وكان متقلداً به فرأيت [فيه] ثماني عشرة فقرة. انتهى.
وقال في (محاسن الأزهار): بعد أن روى أنه سمع ملك يوم بدر ينادي من السماء، وقيل: هو يوم أحد:
لا سيف إلا ذو الفقا.... ر ولا فتى إلا علي
اختلفوا في ذي الفقار، فقال بعضهم: إنه سعف نخل نفث فيه رسول الله ً فصار سيفاً، وقيل: هو من صنم كان باليمن فأهدي لرسول الله ً، وقيل:إنه نزل من السماء نزل به جبريل -عليه السلام- وفيه نزل:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ }[الحديد:25] الآية.
وقيل: إنه من الغنائم يوم بدر، وكان للعاص بن أمية بن الحجاج فأعطاه إياه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان معه إلى أن توفي ثم صار إلى الحسن، ثم إلى الحسين، ثم إلى زيد بن علي.
وروي أنه صار بعد ذلك إلى الهادي يحيى بن الحسين- عليه السلام-، وفيه يقول: الخيل تشهد لي… الأبيات الآتية.(1/383)


قلت: وهذه خاصية عظيمة في الهادي -عليه السلام-، فإنه أشبه أمير المؤمنين [علياً -عليه السلام-] في علمه، وشجاعته، [وسخائه] وورعه وغير ذلك من خصاله المحمودة، ومقاماته المشهودة ثم في كثرة نسله، فإن ذرية الهادي -عليه السلام- كادت أن تملأ الأرض طولها والعرض[103].(1/384)


فصل: في ذكر علمه ومذهبه -عليه لسلام-
قال علماؤنا : إن الشرور قد [كانت] عظمت بين أهل صعد ة على كثرتهم وقوتهم في ذلك الأوان، واشتجر القتل بينهم، فلما وصل إليهم، وعظهم وذكرهم، وانتظم الصلح بينهم في الحال بعد أن كان قائد آل يعفر وصل إلى ناحيتهم يريد الصلح بينهم فما ساعدوه إلى ذلك، بل كانوا يقتتلون وهو واقف في ناحيتهم، فقتل عشرون قتيلاً، فلما أصلح بينهم الهادي -عليه السلام- قبلوا الصلح في الحال ببركته، وامتلأ اليمن ببركته وعدله عدلاً بعد أن كان فيه في الوقت الذي وافاه من القبائح ما تعظم فيه الحال من مذهب القرامطة، والجبرية [وسائر الأفعال] الرديئة الرذلة فطار مذهبه وفقهه في الآفاق، حتى صارت أقواله في أقصى بلاد العجم يأنسون بها أكثر من أنس أهل اليمن بها وعليها يعتمدون، وبها يفتون ويقضون.(1/385)

77 / 205
ع
En
A+
A-