[الإمام يحيى بن عمر بن علي (ع)]
فصل: وأما يحيى المذكور مع الطالقاني في بيت السيد صارم الدين فالمراد به يحيى بن عمر بن علي بن الحسين بن زيد، صاحب الدعوة.
كان فقيهاً، فاضلاً، ناسكاً، شجاعاً، فصيحاً، شاعراً.
قال ابن أبي الحديد: ويقال: إن الناس ما أحبوا طالبياً دعا إلى نفسه حبهم يحيى، ولا رثي أحد مثل ما رثي به.
وكان شديد البدن، مجتمع القلب، وكان له عمود ثقيل يصحبه في منزله، فإذا سخط على عبد أو أمة من حشمه لواه في عنقه، فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتى يحله بنفسه وأمه من ذرية جعفر الطيار.(1/356)
قال المنصور في (الشافي): إنه لما أراد الخروج فزار قبر الحسين بن علي -عليه السلام-، وأظهر لمن حضره من الزوار ما أراد، فاجتمع إليه جُميَّعة من الأعراب، ومضى وقصد شاهي فأقام بها إلى الليل، ثم دخل الكوفة فجعل أصحابه ينادون [الناس] : أجيبوا داعي الله، حتى اجتمع إليه خلق كثير، فلما كان من الغد مضى إلى بيت المال، فأخذ ما فيه، ووجه إلى قوم من الصيارفة عندهم مال السلطان، فأخذه منهم، وسار إلى بني حيَّان، وقد اجتمع إليه أهله، فجعل بعض أهله يشاوره ويخَّوفه من السلطان، ويكبَّر ما فعله، ويحذِّره من القوم، وقرب دارهم، وكثرة جنودهم، فبينما هم كذلك إذا أقبل عبد الله بن محمد في جند كان معه، فانضم إليه من كان يرى رأي القوم، فصاح به بعض الأعراب: يا يحيى، إنك مخدوع، هذه الخيل قد أقبلت، فوثب يحيى فجال في ظهر فرسه كأنه الأسد، فحمل على عبد الله فضربه ضربة بسيفه على وجهه، فولىَّ هارباً وتبعه أصحابه منهزمين، ثم رجع إلى أصحابه فجلس معهم، ثم خرج وشاع خبره، وانتهى إلى بغداد، فندب له محمد بن عبد الله بن طاهر الحسين بن إسماعيل وضمَّ إليه جماعة من القواد منهم خالد بن عمران، وأبو النساء الغنوي، ووجه الفلس في جنود عظيمة فنفذوا إليه إلى كردة.(1/357)
وكان هوى أهل بغداد مع يحيى، فلم يروا قط مالوا إلى طالبي خرج غيره، فنفذ الحسين إلى أن دخل الكوفة، فأقام بها أياماً، ثم مضى قاصداً ليحيى حتى وافاه وهو مقيم بنهرف فتقاوما أياماً، ثم ارتحل يحيى فنزل قرية يقال لها البحرية وكان على خراج الناحية أحمد بن علي الإسكافي وعلىحرثها أحمد بن [أبي] الفرج الفزاري، فحصل أحمد بن علي [على] مال الخراج فهرب به، وثبت ابن [أبي] الفرج فناوش يحيى مناوشة يسيرة وولى عنه، ومضى يحيى لوجهه يريد الكوفة، فعارضه وجه الفلس فقاتله قتالاً شديداً، فانهزم عن يحي فلم يتبعه، ومضى وجه الفلس متوجهاً حتى نزل بشاهي فصادف بها الحسين بن إسماعيل، وكان معه رجل يعرف بالهيصم بن المعلى العجلي فوافاه يحيى في عدة من أهل بيته وعشيرته، وقد تعبت خيلهم، ورجالهم، فصاروا إلى عسكر يحيي، فحين التقوا كان أول من انهزم في خيله ورجاله، فقتل ابن الحسين بن إسماعيل عامله في ذلك.(1/358)
وقيل: بل انهزم لعظم ما لقي، وقد روى علي بن سليمان الكوفي، عن أبيه قال: لقيت الهيصم فذكرنا يحيى بن عمر وهزيمته عنه، فحلف بالطلاق ثلاثاً ما انهزمت لصنيع ولا نفاق، وإنما كان يحيى رجلاً نزقاً في الحرب، فكان يحمل وحده ويرجع، فنهيته عن ذلك فلم يقبل، وحمل مرة كما كان يفعل، فبصرت عيني به في وسط عسكرهم، فلما رأيته قد قتل انصرفت بأصحابي. وعلى الحديث الأول أن يحيى لما رأى هزيمة الهيصم وأصحابه وقف ولم يكترث بذلك، ولم يزل يقاتل حتى قتل -رحمه الله تعالى ونفع به وبآبائه-، بعد أن [قد] أبلى بلاءً شديداً لم ير مثله، ونكَّاهم نكاية عظيمة فاحتزوا رأسه.
وكان بوجهه ضربات فلم يكن يعرف معها، ولم يتحقق أهل الكوفة قتله، فوجَّه إليهم الحسين أبا جعفر الحسني يعلمهم أنه قد قتل، فلم يقبلوا قوله، وشتموه، وهموا به وقتلوا غلاماً كان وجه معه، فوجه أخاً كان ليحيى من أمه يعرف بعلي بن محمد الصوفي من ولد عمر بن علي -عليه السلام- وكان رجلاً رقيباً ديناً، مقبول القول، فعرَّف الناس قتل أخيه، فضجوا بالبكاء والصراخ والعويل، وكانوا ناشبين في القتال.(1/359)
فلما أيقنوا انصرفوا، ولم يلحقهم الحسين رضاً بما قد نال، وانكفأ راجلاً إلى بغداد برأس يحيى بن عمر -عليه السلام-، فلما دخل بغداد جعل أهل بغداد يضحكون استهزاءً واستبعاداً لما ذكر من قتل يحيى بن عمر، ولما دخل الناس على محمد بن عبد الله بن طاهر يهنئونه بالفتح، ودخل أبوهاشم داود بن القاسم الجعفري، وكان ذا عارضة ولسان، وشدة جنان، لا يبالي بما استقبل به الكبراء من أصحاب السلطان، فقال: أيها الأمير، [قد] جئتك مهنئاً بما لو كان رسول الله ً حياً لعزي به، فلم يجبه محمد بن عبد الله عن هذا بشيء، وأمر محمد بن عبد الله حينئذٍ أخته ونسوة من حرمه بالشخوص إلى خراسان، وقال: إن هذي الرؤوس من قتلى أهل هذا البيت لم تدخل بيت قوم قط إلاخرجت منه النعمة، وزالت عنه الدولة، فتجهزن للخروج، وأدخل الأسارى من أصحاب يحيى -عليه السلام- إلى بغداد.
ولم يكن فيما روي قبل ذلك أحد لحق ما لحقهم من العنف وسوء الحال[و] كانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً فمن تأخَّر ضربت عنقه، وأمر المستعين بتخلية سبيلهم فخلوا إلا رجلاً يعرف بإسحاق بن جناح كان على شرطة يحيى بن عمر، فحبسوه حتى مات فآذنوا به محمداً، فخرج توقيعه يدفن الرجس النجس إسحاق بن جناح مع اليهود، ولا يدفن مع المسلمين، ولا يصلىَّ عليه، ولا يغسَّل، ولا يكفَّن، فأخرج في ثيابه ملفوفاً في كساء قومسي على نعش حتى وصلوا به البرية فطرح على الأرض، وألقي عليه حائط.(1/360)