فقلت [له] : أيها الأمير، خوفك أنساني خوف الله، ووعيدك الذي قدمته أذهل عقلي عمَّا سواه، فقال لي:خفف هذا الحديد كله عنه، وقيدَّه بقيد خفيف في حلقة رطل بالنيسابوري، فإن النيسابوري مائتا درهم، وليكون عموده طويلاً، وحلقتاه واسعتين ليخطو فيه، ثم مضى وتركه.
فأقام بنيسابور ثلاثة أشهر يريد بذلك أن يخفي خبره على الناس لما كان يخشى من قيام دهماء الناس فيه، وذلك لكثرة من بايعه بكور خراسان.
وكان عبد الله يخرج من إصطبله بغالاً عليها القباب، يوهم الناس أنه قد أخرجه، ثم يردها حتى استتر في نيسابور وحمله في جوف الليل، وخرج به مع إبراهيم بن غسان الذي أسره من نسا، ووافى به الري، وقد أمره عبد الله بن طاهر أن يفعل[به] كما فعل هو، يخرج في كل ثلاثة أيام ومعه بغل عليه قبة، ومعه جيش حتى يجوز الري بفراسخ، ثم يعود إلى أن يمكنه سله في ليلة مظلمة [لا يؤبه له فيها] ففعل ذلك خوفاً من أن يغلب عليه لكثرة من [قد] أجابه حتى أخرجه من الري، ولم يعلم به أحد، ثم أتبعه حتى أورده بغداد على المعتصم.
قال [إبراهيم] بن غسان: وما رأيت قط أشد جهاداً ولا أعف، ولا أكثر ذكراً لله [منه] مع شدة نفس، واجتماع قلب، ما ظهر منه جزع، ولا انكسار، ولا خضوع في الشدائد التي مرت به، وإنهم ما رأوه قط مازحاً إلا مرة واحدة، فإنهم لما انحدروا من عقبة حلوان أراد الركوب، فجاء بعض أصحاب إبراهيم بن غسان، فطأطأ ظهره له حتى ركب المحمل على البغل.(1/351)


فلما استوى على المحمل، قال للذي حمله على ظهره مازحاً: تأخذ أرزاق بني العباس، وتخدم أولاد علي بن أبي طالب، وتبسَّم فقال له: جعلت فداك، ولد العباس وولد علي عندي سواء.
[قال إبراهيم] : فما سمعناه مزح، ولا رأيناه تبسَّم قبل ذلك ولا بعده، ولا رأيناه أظهر غماً من شيء جرى عليه إلا يوم ورد علينا كتاب المعتصم.
وقد وردنا النهروان، فكتبنا إليه بالخبر واستأذناه في الدخول به، فرد علينا كتابه يأمرنا أن نأخذ خلال القبة، ونسير به مكشوفاً، وإذا وردنا بالنهرين أن نأخذ عمامته، وندخله [بغير عمامة إلى] بغداد[حاسراً] وذلك قبل أن يبني سر من رأى.
فلما أردنا الرحلة من النهروان نزعنا خلال القبة، فسأل عن السبب في ذلك؟ فأخبرناه فاغتمَّ به.
فلما صرنا بالنهرين قلت : يا أبا جعفر، انزع عمامتك فإن الخليفة أمرنا أن تدخل حاسراً فرمى بها إليَّ فدخل يوم النيروز وذلك في سنة تسع عشرة ومائتين وهو في القبة، وهي مكشوفة وعديله شيخ من أصحاب ابن طاهر والجند بين يديه يلعبون ويرقصون، والمعتصم يضحك، وهو في جوسق كان له، ومحمد بن القاسم يسبح ويستغفر، ويدعو عليهم، وهو يحرَّك شفتيه، ويقول: اللهم، إنك تعلم أني لم أزل حريصاً على تغيير هذا وإنكاره.(1/352)


فلما فرغوا من لعبهم، مروا بمحمد بن القاسم إلى مسرور الكبير، فحبسه في سرداب يشبه البير فكاد أن يموت فيه، فبلغ ذلك المعتصم، وقيل: بل دعا إليهم إن كان صاحبكم يريد قتلي، فالآن أموت الساعة، وإن كان يريد حبسي فاعلموه، فأمر المعتصم بإخراجه، وحبس في بستان موسى مع المعتصم في داره، ووكَّل به مسرور عدة من غلمانه.
وكان في القبة التي هو محبوس فيها عدة روازن وكوى واسعة الضوء، فطلب مقراضاً يكون عنده يقرض أظفاره، فدفع إليه فعمد إلى لبد كان تحته، فقط نصفه وقصصه بالمقراض كهيئة السيور وعمل منه مثل السلم، وطلب منهم سعفة ذكر أنه يريد أن يطرد بها الفأر، فإنه يأكل خبزه، ويسحبه عليه، فأعطوه فقطعها، وحزز حواليها بالمقراض حتى قطعها ثلاث قطع، وقرنها بمسواكه، وجعلها في رأس السلم، وحلق به في أقرب روزنة من تلك الروازن التي عليه، وعلقه فيها، وتسلق عليه وجذبه إليه لما صعد [واستقر] وكانت ليلة الفطر سنة تسع عشرة ومائتين.
وقد أدخلت الفواكه والرياحين وآلة العيد على رؤوس الحمَّالين إلى البستان، وصار الحمَّالون إلى القبة التي فيها محمد بن القاسم، فباتوا حولها، فرمى بنفسه من القبة إلى أسفل، فنام بين الحمالين [ساعة] ثم عجل فذهب يخرج فقال له بعض البوابين : من أنت؟ فقال: [أنا] بعض الحمَّالين أردت الانصراف إلى أهلي، فقال له: نم عندي لا تأخذك العسس فنام عنده.(1/353)


ولما طلع الفجر خرج الحمَّالون، وخرج معهم، [ففلت ومضى] فلما أصبحوا، وفتحوا الباب لم يجدوه، [و] أعلموا مسروراً بخبره فدخل على المعتصم حافياً متحسراً مستسلماً للقتل، وأخبره الخبر، فقال له: لا بأس عليك، إن كان ذهب فلن يفوت إن ظهر لنا أخذناه، وإن آثر السلامة واستتر تركناه.
فقال[له] مسرور: إنما هذا بفضلك يا أمير المؤمنين، لو جرى هذا في أيام الرشيد قتلني.
نعم:وقد اختلفوا في أمره -عليه السلام، فقيل: رجع إلى الطالقان فمات فيه، وقيل: انحدر إلى واسط، أكثر ما حققة أهل العلم بهذا الشأن.
وقيل: بل سمه المعتصم بعد ذلك باغتيال، وذهبت طائفة إلى أنه حي على ما تذهب إليه الإمامية.
واعلم أن الطالقان: اسم مدينتين أحدهما بخراسان، وهي التي خرج بها هذا الإمام، والمدينة الثانية من أعمال قزوين، وهي بلد الصاحب الكافي إسماعيل بن عباد، الوزير المشهور، الشيعي، المحقق المذكور، الذي جمع بين رئاستي السيف والقلم، والفصاحة البالغة، والكرم، ورزق السعادة حياً وميتاً، وورث الندوة الندامة والوزارة على وجه كمل له به النبل وانتظم، فهو كما قال فيه الرستمي :
ورث الوزراة كابراً عن كابر.... موصولة الإسناد بالإسناد
يروي عن العباس عباد وزا.... رته وإسماعيل عن عباد(1/354)


وما أحسن قوله :
قالت فما اخترت من دين تفوز به؟.... فقلت: إني شيعي ومعتزلي
وأصح روايته، لقول بعضهم:
أنا وجميع من فوق التراب.... فداء تراب نعل أبي تراب
وقد أجزته أنا بثلاثة أبيات من قولي، وأنا محمد بن علي، مؤلف هذا الشرح، فقلت:
وهذا اسم به سماه طه.... لمنقبة أجاب بها الصحاب
وقد سمع النواصب أوردوه.... على وجه الأذية والسباب
ورب مقالة مرت بسمعي.... كصوت في الهجيرة من ذباب(1/355)

71 / 205
ع
En
A+
A-