ولما احتال الرشيد في نقض العهد قتل يحيى، واختلفوا في قتله كيف كان؟ فروى أبو الفرج بإسناده إلى رجل كان مع يحيى في المطبق قال: كنت [ليلة] قريباً منه، وكان في أضيق البيوت وأظلمها، فبينما نحن ذات ليلة كذلك إذ سمعنا صوت الأقفال[ وقد مضت من الليلة هجعة] فإذا هارون[قد] أقبل[على برذون له ثم وقف] فقال : أين هذا -يعني يحيى بن عبد الله-؟ قالوا: هو بهذا البيت فقال: عليَّ به[فأدني إليه] فجعل هارون يكلمه بشيء لم نفهمه ثم قال: خذوه[فأخذوه] فضرب مائة عصا، ويحيى يناشده الله والرحم والقرابة من رسول الله ً وهو يقول : ما بيني وبينك قرابة، ثم حمل وردَّ إلى موضعه، فقال: كم أجريتم عليه؟ فقالوا : أربعة [أرغفة وثمانية] أرطال ماء، فقال: اجعلوه على النصف، ومكث ليالي ثم سمعنا وقعاً فإذا نحن به حتى دخل ووقف وقفة، ثم قال: عليَّ به، فأخرج وفعل به مثل فعله الأول وضرب مائة عصا أخرى، ويحيى يناشده الله، ثم قال: كم أجريتم عليه؟ فقالوا : رغيفين وأربعة أرطال ماء، قال: اجعلوه على النصف، ثم خرج، وعاد إليه ثالثة وقد مرض يحيى[بن عبد الله] وثقل، فلما دخل قال: عليَّ به، قالوا: هو عليل مدنف لما به، قال: كم أجريتم عليه؟ فقالوا : رغيفاً ورطلين ماء. قال: فاجعلوه على النصف، ثم خرج فلم يلبث[يحيى بن عبد الله] أن مات، فأخرج للناس ودفن[رضي الله عنه وأرضاه].(1/321)
وقال ابن عمار في روايته: إنه بني عليه إسطوانة[بالرافقة] وهو حي وقيل: بل كان لهارون بركة فيها أسود يرمى بمن سخط عليه فيها، فتكشط لحمه فجوَّعها، ثم رمى بيحيى إليها فبصبصت له وما ضرته [وقيل: سمم له] وقيل: غير ذلك، وليحيى -عليه السلام- عقب بالمغرب، ورثاه بعضهم بقوله:
يا بقعة مات بها سيد.... ما مثله في الأرض من سيدِ
مات الشذى بعده والندى.... وسمي الدهر به معتدي
لا زال غيث الله يا قبره.... عليك منه رائح مغتديِ
فكم حياءً قد حزتُ من وجهه.... وكم ندى يحيى به المجتدي
كان لنا غيثاً به نرتوي.... وكان كالنجم به نهتدي
فإن رمانا الدهر عن قوسه.... وخاننا في منتهى السؤددِ
فعن قليل تبتغى ثأره.... بالحسني الثائر المهتدي
إن ابن عبد الله يحيى ثوى.... والمجد والسؤدد في ملحدِ(1/322)
[الإمام إدريس بن عبد الله - عليه السلام -].
وسل إدريس غرب العزم منتضياً.... بالغرب وهو من الأشياع في زمرِ
فعاجلته بسهم الحتف وأدرعت.... على سراة بنيه فروة النمرِ
هو: إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، وأمه عاتكة بنت الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي، لما جمع خصال الشرف، ونشأ نشوء آبائه في العلم، والزهد، اللذين كل بذلك أقرَّ واعترف، سار نحو المغرب، فعرفه جماعة من أهل تلك النواحي كانوا قد حجوا في تلك السنة التي قتل فيها الحسين الفخي، وشاهدوه يقاتل، وقد اصطبغ قميصه دماً، فشهر نفسه في نواحي المغرب، ودعا إلى الله هناك، فلبَّاه خلق كثير.
وكان له مواقف كبيرة ومحاربات جمة ظهر فيها على الجنود العباسية، والخوارج، ولما بلغ هارون خروجه وقوة جانبه قلق، حتى هابته حاشيته، واجتنبوا كلامه خوفاً من سطوته، فجاء يحيى بن خالد فأخبروه فجاء من تلقاء وجهه، فقال: يا أمير المؤمنين، مالي أراك كئيباً؟ فإن كان لحدث أوفتق، فلم يزل ذلك يقع على الملوك، ثم يؤول الأمر إلى المحبوب، وإن كان لأمر نفديك فيه بأنفسنا وأموالنا فهي لك [الفداء] وإن كان لأمر لا تكفي فيه نفوسنا وأموالنا سألنا الله كفايته، فقال: إن عاملنا بإفريقية ذكر في كتابه خروج إدريس بن عبد الله، وقد علمت ما بيننا وبين الطالبية ما هو إلا خروجهم، وكان الفنا، فقال: لتطب نفس أمير المؤمنين، فإني أكفيه أمر إدريس، فلا تعرف هلكه إلا مني، فطابت نفس هارون، فاستعمل سماً، وأمر به فسمم له -عليه [السلام] -.(1/323)
قال بعض الناس: إن السم الذي أرسلوا به كان على يد سليمان بن جرير أحد شيوخ الزيدية ومتكلميها، وهذه الرواية مذكورة في (الحدائق الوردية) ووجدتها -أيضاً- مكتوبة بخط السيد الأمير: الحسين بن محمد صاحب (التقرير) يرويها بسنده، إلى أحمد بن عيسى بن زيد -عليه السلام-، قال: جاء رجل من العراق إلى المغرب، يقال له: سليمان بن جرير، وكان مع إدريس فخالفه في شيء، [وقد] كان أعطاه هارون مائة ألف درهم على أن يقتله له، فدخل إدريس الحمام، فأرسل إليه سليمان بسمكة، فحين أكل منها أنكر نفسه، وقال: بطني أدركوا سليمان، فطلب في منزله فلم يوجد فجروا إثره، فامتنع من المسير معهم، وقاتلهم وضرب في وجهه وفي يده ضربتين، فالتي في يده قطعت إحدى أصابعه، وفاتهم هرباً، وقيل: بل الذي سمه الشماخ مولى لبني العباس خرج إلى هناك، فأظهر أنه متطبب شيعي؛ فشكا إليه إدريس وجعاً في أسنانه، فأعطاه شيئاً أن يستقي به من عند الفجر، وهرب في الليل، وفعل إدريس ما أمره به عند الفجر فقتله من بعد ثلاثة أيام وفي ذلك يقول بعض شعراء العباسيين:
أتظن يا إدريس أنك مفلت.... كيد الخلافة أو يقيك فرار
فليدركنك أو تحل ببلدة.... لا يهتدي فيها إليك نهار
إن السيوف إذا انتضاها شخصه.... طالت فتقصر دونها الأعمار
ملك كأن الموت يتبع أمره.... حتى يقال تطيعه الأقدار(1/324)
[ذكر إدريس الثاني وإدريس المثلث]
وله ولد اسمه إدريس، وكان من سادات العترة، وولده إدريس المثلث، وله عقب في المغرب، وملك منهم جماعة، وهم مذكورون في التواريخ.
قال ابن أبي الحديد في معرض مفاخرة بين بني هاشم و[بين] بني أمية: فإن افتخرت الأموية بملوكها في الأندلس من ولد هشام بن عبد الملك، واتصال ملكهم، وجعلوهم بإزاء ملوكنا بمصر[وإفريقية] قالوا لهم: إلا أنَّا الذين أزلنا ملكهم بالمغرب كما أزلنا ملكهم بالشام[83] والمشرق كله؛ لأنه لما ملك قرطبة الظافر من بني أمية[وهو سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الملقب بالناصر] خرج عليه علي [بن حمود بن منصور] بن أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن إدريس [بن إدريس] بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام فقتله، وأزال ملكه، وملك [علي بن حمود] [قرطبة] دار ملك بني أمية، وتلقب بالناصر، ثم قام بعده أخوه القاسم بن حمود [وتلقَّب بالمأمون، ثم قام بعده يحيى بن علي بن حمود] وتلقَّب بالمعتلي، فنحن قتلناكم وأزلنا ملككم في المشرق والمغرب انتهى. فإدريس هذا عدَّه الإمام المهدي في (البحر) هو وولده من الأئمة، وهو [ظاهر] كلام السيد هنا.
وأما الحاكم في (شرح العيون) فقال: إن إدريس هذا في الطبقة الذين عدَّ فيها المقتصدين، لأنه ذكر هناك محمد[بن حسن] بن صالح، ومن جرى مجراه.(1/325)