مائة ألف مقاتل من المسلمين، فخرج إلى بلاد الديلم، وقال: إن للديلم، معنا خرجة، وأرجو أن تكون معي فلم تكن معه، وإنما كانت مع الناصر وكان في الذين بايعوه من عيون العلماء ا لمشهورين ابن عبد ربه، [و] ابن علقمة، والشافعي وغيرهما، وجرى على الشافعي -رحمه الله- في ذلك نكبة، وذلك أن الرشيد لما بلغه أنه يدعو ليحيى بن عبد الله أنفذ إليه من أتى به على حمار مقيد مكشوف الرأس، فأدخل بغداد على تلك الحال.
قالوا: ولما استجاب ليحيى من استجاب تغيَّرت أحوال هارون، وقطع الخمر، ولبس الصوف، وافترش اللبود، وتحلَّى بغير ما يعتاده من العبادة والصلاح، وعلم أنه لا يطيق على أخذ يحيى قسراً، فأعمل الحيلة في إخراجه من هناك فوجه الفضل بن يحيى في خمسين ألف مقاتل، وألزمه التوصل في إخراج يحيى بما أمكن من الحيلة واجتهد الفضل في ذلك إزالة للتهمة عن نفسه؛ لأنه كان قد سُعِيَ به إلى هارون، وقيل: إنه يعرف مكانه، وأنه كتب له مسطوراً يعرضه على أهل كل جهة ألاَّ يتعرضوا له بحال، فلما جهزَّ الفضل بن يحيى بالخيل والأموال الجليلة،[و] أمره أن يبذل لجستان ما يحب من الأموال، فلما وصل الفضل إلى هناك عرض على ملك الديلم الأموال الجليلة ليخرج يحيى من بلاده فامتنع جستان من ذلك، وكان الفضل [قد] عرف أن امرأة جستان غالبة عليه فطمع فيه من جهتها، فأنفذ إليها من الألطاف والجواهر والطيب والثياب حتى أرضاها، فأشارت على جستان، فأراد تسليمه في قصة طويلة؛ شهد عليه فيها فوق ألف من علماء الإسلام أنه عبد لهارون، وانخدع جستان، فقال يحيى: إن كان ولابدَّ فاتركني آخذ لي(1/316)
ولأصحابي الأمان، فكتب له هارون أماناً عرضه يحيى عليه السلام على جميع علماء الإسلام، فكلهم يقول: هذا لا ينقضه ناقض، وهذه نسخة الأمان التي وضعها هارون إلى يحيى بن عبد الله –عليه السلام- :
بسم الله الرحمن الرحيم هذا[كتاب] أمان من أمير المؤمنين هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ليحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب[بن عبدالمطلب] وسبعين رجلاً من أصحابه إني أمنتَّك -يا يحيى بن عبد الله -والسبعين رجلاً من أصحابك بأمان الله الذي لا إله إلا هو، الذي يعلم من أسرار العباد ما يعلم من علانيتهم-أماناً صحيحاً، براً صادقاً، ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره، لا يشوبه غل، ولا يخالطه غش بوجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب، فأنت يا يحيى بن عبد الله والسبعون رجلاً من أصحابك آمنون بأمان الله على ما أصبت من مال أو دم أو حدث على أمير المؤمنين هارون بن محمد، وأصحابه [وقواده] وجنوده، وشيعته، [وأهل مملكته] وأتباعه، ومواليه، وأهل بيته، وعلى أن كل من طالبه، أو طالب أصحابه بحدث كان منه أو منهم من الدماء والأموال، بجميع الحقوق كلها، وما استحق الطالب على يحيى بن عبد الله وأصحابه السبعين، فعلى أمير المؤمنين هارون بن محمد ضمان ذلك [جميعه] وخلاصه حتى يوفيهم حقوقهم[أو يرضيهم] بما شاءوا بالغة ما بلغت تلك المطالبة من دم، أو مال، أو حدَّ، أو قصاص، وأنه لا يؤاخذه بشيء كان منه أو منهم ممَّا وصفنا في صدر [كتابنا] هذا، ولا نأخذه [هو] وإياهم بضغن، ولا ترة، ولا(1/317)
حقد، ولا وغر بشيء ممَّا كان منه من كلام، أو حدث، أو عداوة ظاهرة أو باطنة، [ولا] ممَّا كان منه من المبايعة والدعاء إلى نفسه، وإلى خلع أمير المؤمنين [هارون] وإلى حربه، وأن أمير المؤمنين هارون [بن محمد] أعطى يحيى بن عبد الله والسبعين رجلاً من أصحابه عهداً خالصاً وميثاقاً غليظاً مؤكداً، وذمة الله، وذمة رسوله، وذمة أنبيائه المرسلين، وملائكته المقربين، وأنه جعل له هذه [العهودو] المواثيق والذمم ولأصحابه في عقدة مؤكدة صحيحة، لا براءة له عند الله في دنياه وآخرته إلا بالوفاء بها، وأني قد أنفذت ذلك لك ولهم، ورضيته وسلمته، وأشهدت الله وملائكته على ذلك وكفى بالله شهيداً، وأنت وإياهم آمنون بأمان الله، وليس عليك ولا عليهم عتب، ولا توبيخ، ولا تبكيت، ولا تعريض، ولا أذى مما كان منك ومنهم إذ كنت في مناوأتي وحربي من قتل كان، أو قتال، أو زلة، أو جرم، أو سفك دم، أو جناية عمداً أو خطأ، أو أمر من الأمور سلف منك أو منهم من صغير من الأمور ولا كبير سراً أو علانية ولا سبيل إلى نقض ما جعلته لك من أمان ولا [إلى] نكثه بوجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب، وإني قد أذنت لك بالتقدم أنت وأصحابك أين شئت من بلاد المسلمين، [و] لا تخاف أنت ولاهم غدراً، ولا ختراً، ولا إقفاراً حيث أحببت من الأرض فأنت وهم آمنون بأمان الله الذي لا إله إلا هو لا ينالك أمر تخافه، [أو تحاذره] من ساعات الليل والنهار، ولا أدخل في أماني عليك غشاً ولا خديعةً، ولا مكراً، ولا يكون [ذلك] مني إليك بدسيسة ولا جاسوس، ولا إشارة، ولا معارضة ولا كناية(1/318)
ولا تصريح، ولا شيء مما تخافه على عذر ولا مطعم، ولا مشرب، ولا ملبس، ولا أضمره لك، ولا ترى مني انقباضاً، ولا مجانبة، ولا ازوراراً فإن أمير المؤمنين هارون بن محمد[بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبد المطلب] نقض ما جعل لك ولأصحابك من أمانهذم هذا، ونكث عنه أو خالفه إلى أمر تكرهه، أو أضمر لك في نفسه غيرما أظهره أو أدخل عليك فيما ذكر من أمانه[وتسليمه] لك [ولأصحابك] الخديعة لك، أو المكر بك، أو نوى غير ما جعل لك الوفاء به، فلا قبل الله منه صرفاً، ولا عدلاً، وزبيدة بنت جعفربن أبي جعفر طالق [منه] ثلاثاً بتةَّ، وأن كل مملوك له[من عبد] أو أمة، أو سرية أو أمهات أولاد أحرار، وكل إمرأة ينكحها فيما يستقبل فهي طالق وكل مملوك يملكه فيما يستقبل من ذكر أو أنثى فهم أحرار، وكلما ملكه من مال، أو يستفيده فهو صدقة على الفقراء والمساكين، وإلا فعليه المشي إلى بيت الله الحرام حافياً راجلاً، وعليه المحرمات من الأيمان كلها، وأمير المؤمنين هارون بن محمد [بن عبد الله] خليع من إمرة المؤمنين، والأمة من ولايته براء، ولا طاعة له في أعناقهم، والله عليه فيما أكد، وجعل على نفسه في هذه الأيمان كفيل، وكفى بالله شهيداً.(1/319)
قالوا: وكتب يحيى -عليه السلام- كتاباً آخراً على الفضل بن يحيى، وأن هارون أمره بإعطائه الكتاب الذي فيه الأمان، وكتب بخطه، وأشهد الألف والثلاثمائة رجل الذي شهدوا عليه بالرق والزور، وأتى كتاب هارون وخطه بيده، فخرج يحيى إلى بغداد، ثم إلى المدينة، [و] وقف بها مدة، فتمالأ جماعة من قريش على كيده، والسعاية به إلى هارون، وأنه يريد الخروج عليه؛ فحبسه الرشيد وجرى له معه ومع الزبيري مناظرات، خلاصتها: أن هارون نقض ذلك العهد، وقد أشار إلى ذلك أبو فراس حيث يقول:
يا جاهداً في مساويهم يكتمها.... غدر الرشيد بيحيى كيف ينكتم
ذاق الزبيري غب الحنث وانقشعت.... عن ابن فاطمة الأحقاد والتهم(1/320)