وأما بيعته -عليه السلام- فإنه قد كان خرج إلى البصرة داعياً إلى أخيه النفس الزكية، فقام متوارياً حتى ظهرت دعوة أخيه بالمدينة، فأظهر هو الدعاء إليه، واستولى على البصرة، وقام بالأمر هناك حتى ورد عليه نعي أخيه وهو يريد أن يصلي صلاة العيد، فصلى [بهم] ثم رقى المنبر، ونعى أخاه إلى الناس، ثم أنشأ يقول متمثلاً:
أبا المنازل يا عين الفوارس من.... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم أني لو خشيتهم.... أو أوجس القلب من خوف لهم جزعا
لم يقتلوك ولم أسلم أخي لهم.... حتى نموت جميعاً أو نعيش معا(1/306)
لما نزل بايعه علماء البصرة، [وعبادها] وزهادها، واختصت به المعتزلة مع الزيدية، ولا زموا مجلسه، وتولوا أعماله، فاستولى على واسط وأعمالها، والأهواز وكورها، وأعمال فارس، وكان أبو حنيفة يدعو إليه سراً، وكاتبه، وكتب إليه: إذا ظفرك الله بآل عيسى بن موسى وأصحابه فلا تسر فيهم سيرة أبيك في أهل الجمل، فإنه لم يقتل المدبر، ولم يجهز على الجريح، ولم يغنم الأموال؛ لأن القوم لم تكن لهم فئة، ولكن سر فيهم سيرة يوم صفين، [فإنه أجهز على الجريح] وأقسم الغنيمة؛ لأن أهل الشام كان لهم فئة، فظفر المنصور بكتابه، فكتب إلى عيسى بن موسى وهو على الكوفة أن يحمل إليه أبا حنفية إلى بغداد، قال أبونعيم راوي هذه القصة: فقدم بغداد فسقي شربة فمات وهو ابن سبعين سنة، وكان مولده سنة90، وكان من أتباع الإمام إبراهيم[بن عبد الله] عليه السلام وأما بشر الرحال ومطر الوراق فيروى أن أبا الدوانيق أمر رجلاً إلى البصرة ليعرف أحوال إبراهيم، فلما رجع، قال: كيف رأيت مطر الوراق، وبشر الرحال؟ قال: رأيتهما يدخلان على إبراهيم، وعليهما السلاح، فقال: ما كنت أظن أن الصوم أبقى لهما ما يحمل السلاح.(1/307)
قالوا: فلما قويت شوكة إبراهيم جهز أبو الدوانيق عيسى بن موسى وغيره لمحاربته، فلما بلغ ذلك إبراهيم أجمع المسير إليهم فأشار عليه بعض أصحابه بالوقوف بالبصرة، فأبى وسار نحوهم، فالتقوا بباخمرا، وكان عسكره إحدى عشر ألف راجل وسبعمائة فارس، وكانت الهزيمة أولاً في أصحاب أبي جعفر، ثم كانت في أصحاب إبراهيم -عليه السلام-، فثبت حتى[إذا] كان آخر النهار، رفع المغفر عن وجهه من شدة الحر فجاء سهم فوقع في رأسه، فاعتنق فرسه، واحتوشته الزيدية وأنزلوه فأخذه بشر الرحَّال إلى حجره، وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً }[الأحزاب:38]، ثم حمل عليه جند الظلمة فحزوا رأسه، ورأس بشر الرحَّال، وأمروا بهما إلى [أبي] جعفر، ودفنوا جثة إبراهيم بباخمرا.
قالوا: وصرع معه أربعمائة ضاربوا دونه حتى قتلوا، وكان خروجه في رمضان من سنة خمس وأربعين ومائة، فبقي رمضان وشوال وذا القعدة، وقتل في ذي الحجة ومما رثَّي به قول غالب بن عثمان الهمداني الناعطي -رحمه الله- [تعالى] :
وقتيل باخمرا الذي.... نادى فأسمع كل شاهد
أدنى الجنود إلى الجنود.... تزحَّف الأسد الحوارد
بالمرهفات وبالقنا.... والمبرقات وبالرواعد
فدعا لدين محمد.... ودعوا إلى دين ابن صائد
فرماهم بلبان أبـ.... ـلق سابق للخيل قائد
بالسيف يبري مصلتاً.... هاماتهم بأشد ساعد
فأتاه سهم قاصد.... لفؤاده بيمين جاحد
فهوى صريعاً للجبـ.... ين وليس مخلوق بخالد
وتبددت أنصاره.... وثوى بأكرم دار واحد
نفسي فداء لك من صر.... يع غير ممهود الوسائد
وفدتك نفسي من غر.... يب الدار في القوم الأباعد(1/308)
أي امرئ ظفرت به.... أيمان أبناء الولائد
وأولئك الشهداء والصَّـ.... ـبر الكرام لدى الشدائد
ونجار يثرب والأبـ.... ـاطح حيث معتلج العقائد
أقوت منازل ذي طوى.... فبطاح مكة فالمشاهد
فالخيف منهم والجمار.... فموقف الظعن الرواشد
[فحياض زمزم فالمقام.... فصادر عنها ووارد]
فسويقتان فينبع.... فبقيع يثرب والملاحد
أمست بلاقع من بني.... [حسن بن فاطمة الأراشد]
وكان هذا الشاعر من الرئاسة والعلم [بموضع] ليس لأحد مثله، وجد به الطلب بعد قتل إبراهيم حتى ظفر به أبو الدوانيق فقتله، ولم يقله العثرة، ولما قُدم للقِّتل قال:
هل كان يرتحل البراق أبوكم.... أم كان جبريل عليه ينزل
أمَّ من يقول الله إذ يختاره.... للوحي قم يا أيها المزمل
يبدي المؤذن في الصلاة بذكره.... مع ذكره لله حين يهلل(1/309)
[الإمام علي بن العباس بن الحسن بن الحسن والإمام الحسين بن علي الفخي عليهما السلام]
وبعده فعلي من علا شرفاً.... وليس للمرء دون الموت من وزرِ
وأسبلت عبرات المؤمنين على.... دم بفخ لآل المصطفى هدرِ
المراد بعلي هذا هو: علي بن العباس بن الحسن بن الحسن، والعباس هذا هو: أخو عبد الله الكامل، وهو ممن حبسه أبو الدوانيق.
قال الإمام المنصور[بالله-عليه السلام-] في كتابه (الشافي): إن [علي بن] العباس هذا دعا إلى نفسه ببغداد، واستجاب له جماعة وافرة من الزيدية، فأمر عليه المهدي الجواسيس، فجاءوه بعلمه، فقبض عليه قبل استحكام أمره، ولم يزل في حبسه إلى أن وفد عليه الحسين[بن علي] الفخي عليه السلام فاستوهبه منه فوهبه له، فدس إليه شربة سم فلم تزل تعمل فيه حتى قدم المدينة، فتفسخ لحمه[وتباينت أعضاءه] بعد دخوله المدينة بثلاثة أيام وأما البيت الثاني فأشار به السيد صارم الدين إلى الحسين صاحب فخ، ومن قتل معه من أهل البيت وهو بعينه من أبيات (البسَّامة)، لكن السيد حرَّفه فذلك قال:
وأسبلت دمعة الروح الأمين على.... دم بفخ لآل المصطفى هدر(1/310)