بني الحسن، فأمر بحبسهم جميعاً، [ثم سار بهم نحو العراق، وارتجت المدينة بالبكاء من كل دار].
هذه رواية ابن عبد ربه وقال الحاكم: إنهم فوق عشرين نفراً، فسار بهم، وحبسهم في العراق في أضيق حبس، فبعضهم مات، وبعضهم نجا وهم القليل، ولما خرجوا بهم من المدينة خرج جعفر الصادق وجعل ينظر إليهم من حيث لا يبصر ودموعه جارية على خده، وقتلهم الدوانيقي على صفات مختلفة.
قالوا: وممن مات في الحبس: إسماعيل بن إبراهيم، وكان يسمى الديباج ؛ لأنه كان مثل سبيكة الذهب كلما اشتد الوقد عليها ازدادت حسناً، وممن كان في الحبس: محمد بن إبراهيم أخو إسماعيل، وكان محمد يسمى الديباج الأصفر، وإسماعيل الديباج مطلقاً، فقال أبو جعفر لمحمد لما حبسهم: أنت الديباج الأصفر؟ فقال: نعم، فقال: إذن، والله لأ قتلنك قتلة ما قتلها أحد من أهل بيتك، فأمر بإسطوانة فلما فرغت أدخل فيها فبنى عليه وهو حي. رواه ابن جرير الطبري.(1/301)


وروي: أن إسماعيل هذا قبل حبسه قد [كان] أتي له من مصر بألفي دينار ورزمتي ثياب، فسايره رجل من[باب] المسجد إلى البيت، فقال: ألك حاجة؟ فقال: لا، إنما أحببت أن أصل جناحك، فأمر له بإحدى الرزمتين وبعض المال، ومن المحبوسين: علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وكان كثير التلاوة، وكانوا في ذلك المطبق لا يهتدون إلى أوقات الصلاة إلا بقراءته لما كان قد اعتاده من قبل، ولما اشتد عليهم البلاء، وعظم الأمر، قال له عبد الله بن الحسن: يا بني، قد ترى ما نحن فيه فادع الله تعالى، وكان مجاب الدعوة، ففكرَّ، ثم قال: يا عم، إن لأبي الدوانيق في النار منزلة لم يكن ليبلغها إلا بما فعل بنا، وإن لنا منزلة في الجنه لم نكن لنبلغها إلا بما نحن فيه، فإن شئت أن أدعو الله أن يقصر بنا في منزلتنا في الجنة، ويقصر به في منزلته في النار فعلت، فقال: لا، يا بني، وكان على هذا يعرف هو وامرأته بالزوج الصالح، وكان يسمى: علي الخير، وعلي الأغر، وهو والد الحسين الفخي الآتي ذكره، وروي أن جعفر الصادق- عليه السلام- لم يزل يبكي منذ أخرجهم أبو الدوانيق وفي الرواية: أنه لما قتل منهم من قتل ومات في حبسه من مات، أمر شيبة بن عقال إلى الموسم لينال من آل أبي طالب، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن علي بن أبي طالب شقَّ عصا المسلمين، وخالف أمير المؤمنين، وأراد [هذا] الأمر لنفسه؛ فحرمه الله أمنيته، وأماته بغصته ثم هؤلاء [ولده] يقتلون، وبالدماء يخضبون فقام إليه رجل، فقال: الحمد لله رب العالمين، ونصلي على محمد الأمين، وسائر النبيين أما ما(1/302)


قلت من خير فنحن أهله، وما قلت من شر فأنت به أولى، وصاحبك به أحرى، يا من ركب غير راحلته، وأكل غير زاده، إرجع مأزوراً، ثم أقبل على الناس، فقال: أخبركم مَنْ ذلك بالأبخس ميزاناً، والأبين خسراناً؟ من باع آخرته بدنيا غيره فهو هذا، ثم جلس، فقال الناس: من هذا؟ فقيل:[هذا] جعفر الصادق -عليه السلام-.
قالوا: ولما خرج بنو الحسن من المدينة كما تقدم، أنشأ بعض شيعتهم يقول:
من لنفس كثيرة الإشفاق.... ولعين كثيرة الإطراق
جمدت للذي دهاها زماناً.... ثم جادت بدمعها المهراق
لفراق الذين راحوا إلى.... الموت عياناً والموت مر المذاق
ثم راحوا يسلمون علينا.... بأكف مشدودة بالوثاق
ما رأينا من البرية طراً.... مثلهم لو وقى من الموت واقِ
كرماً عند ما ألم وصبراً.... ليست المقرمات مثل العتاق
فيهم سيد البرية يشكو.... طول حبس وغص قيد مضاق
غيَّبت وجهه قريش وعا.... دت بمفدَّى مبارك سبَّاق
وروى السيد ط بإسناده إلى محمد بن يحيى الصولي قال: سمعت[محمد بن القاسم] أبا العيناء يقول وقد تذاكرنا ذهاب بصره، قال: كان أبو الدوانيق يثق بجدي، وكان في نهاية الثقة [والعقل] فقال له: قد ندبتك لأمر عظيم عندي موقعه، وأنت عندي كما قال أبو ذؤيب:
الكني إليها وخير الرسو .... ل أعلمهم بنواحي الخير(1/303)


ثم عرَّفه ما يريد منه، وأطلق له مالاً خطيراً، وقال : مر إلى المدينة وافتح بها دكان عطار، وأظهر أنك من خراسان شيعة عبد الله بن حسن وأنفق على حشمه، وأهد لهم وله ما يقربك عندهم، وكاتبني مع ثقاتك بأنفاسهم، وتعرَّف لي خبر ابنيه محمد، وإبراهيم، فمضى جدي ففعل ذلك، فلما قبض أبو الدوانيق على عبد الله وأهل بيته جعل يوبخَّه على شيء فشيء من فعله وقوله، ويخبره بما ظن أن أحداً لا يعلمه، فقال عبد الله لبعض ثقاته: من أين أُتينا؟ فقال: من جهة العطار، فقال: اللهم، ابتله في نفسه وولده بما يكون نكالاً له، وردعاً لغيره.
قال: فعمي جدي، وعمي بعده أبي وولده، وأنا على ما ترون، وكذلك ولدي، [من دعاء عبدالله بن الحسن إلى يوم القيامة].(1/304)


[الإمام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن عليهم السلام ]
وأوقعت يوم باخمرا يسيدها.... واستخرجت ليث غاب كان في الُحمرِ

باخمرا: اسم مكان الوقعة التي قتل فيها الإمام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن -عليهم السلام-، وكنيته أبو الحسن، ولهذا قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة في ولده إبراهيم [يرثيه] :
أبا حسن وإبراهيم يكنى.... أبا حسن بقومك أجمعينا
قالوا: [و] كان الإمام إبراهيم هذا قد نشأ على الديانة والعفاف والعلم والعمل حتى بلغ أشرف خطة، وأعلى درجة، وروي أن إبراهيم بن يحيى الهمداني سئل فقيل له: قد رأيت إبراهيم ومحمداً ابني عبد الله، فأيهما كان أفضل؟ فقال: والله لقد كانا فاضلين شريفين كريمين، عابدين زاهدين، وكان إبراهيم يقدَّم أخاه محمداً ويفضَّله، وكان محمد يعرف لإبراهيم فضله، وقد مضيا شهيدين.
وقال بعضهم: لما قتل إبراهيم وأنا بالكوفة أتيت الأعمش بعد قتله، فقال: هاهنا أحداً تنكرونه فقلت: لا، فقال: أما والله لو أصبح أهل الكوفة على مثل رأيي لسرنا [حتى تنزل لعقوقه يعني أبا جعفر] فإذا قال لي: ما حاجتك يا أعمش؟ قلت: جئت لأبيد خضراءك، أو تبيد خضراءي؛ بما فعلت بابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(1/305)

61 / 205
ع
En
A+
A-