عدنا إلى ذكر النفس الزكية
قال السيد ط: كان شجاعاً فارساً، خطيباً بارعاً في الخطبة على تَمَتمَة [فيه] كانت تعتريه إذا تكلم، فإذا عرضت له ضرب صدره بيده فينفصح لسانه، وهو أول من ظهر من آل رسول الله ً، وخوطب بأمير المؤمنين، وبعده محمد بن جعفر بن محمد عليه السلام وكان بين كتفيه شامة تشبه شامة النبي ً، وفيه يقول الشاعر:
وإن الذي يروي الرواة لبين.... إذا ما ابن عبد الله فيهم تجردا
له خاتم لم يعطه الله غيره.... وفيه علامات من البر والهدى
[و] كان [-عليه السلام-] غزير العلم، وافر الفهم، قد سمع من آبائه الحديث، وسمع من نافع، وابن طاووس وله كتاب (السير) المشهور، يقال: إن محمد بن الحسن الشيباني نقل أكثر مسائل السير من هذا الكتاب، وفيه من غرائب الفقه ما يدل على علو منزلته، ويكشف عن عالي مرتبته، وكان -عليه السلام- قوياً جداً.
روى الشيخ أبو الفرج، عن سعيد بن عقبة قال: كنا مع عبد الله بن الحسن بسويقة وبين يديه صخرة، فقام محمد [بن عبد الله] يعالجها ليرفعها فأقلها حتى بلغ ركبتيه، فنهاه أبوه فانتهى،فلما دخل عبد الله عاد إليها فأقلها حتى بلغ بها على منكبيه، ثم ألقاها فحزرت ألف رطل.
قال: ووقف موسى يعني الهادي وهو أخو الرشيد على الصخرة بسويقة، فاجتمع هو ورجل من أصحابه على علاجها وهي على حرفها، فكان جهدهما أن حركاها ومن شعره -عليه السلام-:
متى يرى للعدل نور وقد.... أسلمني ظلم إلى ظلم
أمنية طال عداتي بها.... كأنني فيها أخو حلم(1/291)


[قالوا] : ولما انتشرت دعوته -عليه السلام- في الآفاق وعقدت من أهل الفضل في الأعناق، اضطر إلى الخروج قبل أوانه، وكان السبب في ذلك أن أبا الدوانيق لما حبس عبد الله بن الحسن وإخوته وشدد عليهم بسبب محمد هذا، وأمر بضرب موسى بن عبد الله فضرب ستمائة سوط، ثم أمره أبو جعفر ابن عمه ليكون [له عيناً] فتقدم موسى بن عبد الله على أن يكون عيناً له على أخيه محمد، فأقام مدة بالمدينة حتى أمر [واليها إلى أبي جعفر] إنك أمرت موسى ليكون عيناً لنا على محمد بن عبد الله وإنه عين له علينا، فأمر أبو جعفر بإحضاره، فلما خرجوا بموسى من المدينة خشي عليه أخوه محمد[من] القتل؛ فشهر نفسه في الحال، وكان ظهوره لليلتين بقيتا من شهر جماد الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة وانضاف إليه في تلك الحال مائتان وخمسون رجلاً حتى وقف على سجن المدينة، وأخرج من فيه ودخل المسجد قبل الفجر، فخطب الناس، وقال في خطبته بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد.. يا أهل المدينة، فإني والله ما خرجت فيكم وبين أظهركم[لأتعززبكم] فغيركم كان أعزَّ لي منكم إلا أني حبوتكم بنفسي مع أنه لم يبق مصر من الأمصار يعبد الله فيه إلا وقد أخذت لي فيه البيعة، وما بقي أحد من مشرق، ولا مغرب إلا وقد أتتني بيعته، وأنا أحق الناس بالقيام بهذا الأمر لأبناء المهاجرين والأنصار، مع ما قد علمتم من سوء مذهب هذا الطاغية الذي قد بلغ من عتوه وطغيانه أن اتخذ لنفسه بيتاً وبوَّبه بالذهب -يعني أبا الدوانيق-، ثم بالغ في ذمه، ثم صلى بالناس وبايعوه طوعاً إلا شرذمة، وهرب والي المدينة لأبي الدوانيق(1/292)


فلحق وسألوه عن موسى؟ فقال: قد أنفذته إلى المنصور، فبعث جماعة من الفرسان فردوه، ثم خرج –عليه السلام- إلى مكة فبويع هناك، وبعث أخاه إبراهيم إلى البصرة، وأما هو فرجع من مكة إلى المدينة فوجه إليه أبو جعفر عيسى بن موسى في أربعة آلاف رجل، وقال له: إنك سترد على حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجيران قبره، فإن قتلت محمداً أو أخذته أسيراً فلا تقتل أحداً وارفع السيف، وإن طلب محمد الأمان فأعطه، فلما بلغ محمد مسيره خندق على المدينة خندقاً فقاتلهم ساعة، فلما انهزم أصحابه، وتفرقوا رجع إلى دار مروان، فصلى الظهر واغتسل وتحنط، وكان القتال يوم الإثنين للنصف من رمضان.(1/293)


قال بعضهم: رأيت محمداً وإنه أشبه [ما] خلق الله به لما ذكر من حمزة بن عبد المطلب، يهز الناس بسيفه ما يقاربه أحد إلا قتله، والله ما يلتق شيئاً حتى رماه إنسان بسهم، فوقف إلى ناحية جدار المسجد، وتحاماه الناس، وروي أنه قتل ذلك اليوم اثني عشر رجلاً من جنود الظالمين، وكان انهزام عسكره على ما رواه الإمام المنصور بالله في رواية الفقيه الشهيد حميد المحلي في (الحدائق) بحيلة امرأة عباسية كانت في المدينة، فإنها أمر ت خادماً لها بقناع أسود رفعه في منارة[مسجد] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمرت خادماً لها آخر فصاح في العسكر: الهزيمة الهزيمة، فإن المسودَّة قد جاءوا من خلفكم، فدخلوا المدينة، فرأوا الراية السوداء فلم يشكوا في ذلك فانهزم الناس، وبقي وحده يقاتل حتى ضربه رجل على ذقنه فسقطت لحيته على صدره فرفعها بيده وشدها، ثم رمي بنشابة في صدره فحملوا عليه من كل جانب فقتل، والذي تولى الإجهاز عليه حُمَيد بن قحطبة، وفي بعض الأخبار أنه لما حمي الوطيس خرج النفس الزكية في قبا طاق وهو يقول [شعراً] :
قاتل فما بك إن خشيت بدونه.... في ظل صرفيها إذا لم تخلد
إن امرأً يرضى بأهون سعيه.... قصرت مرؤته إذا لم يزدد(1/294)


فلما قتل حمل رأسه إلى أبي الدوانيق، وكان قتله بعد العصر يوم الإثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، ذكره أبو الفرج الأصبهاني من سنة خمس وأربعين ومائة، وقيل: [سنة] ست، وقيل: إنه قتل عن اثنين وخمسين سنة، وكان مدة قيامه شهرين تزيد أياماً قلائل، ولما قتل دخل الجند الظالم المدينة لزيارة قبر النبي، فوقف حميد بن قحطبة على الباب ولم يدخل، فقال له بعضهم: ما رأيت أعجب من أمرك تضرب آباط الإبل لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتصل إلى باب مسجده، ثم لا تزوره؟! فقال: والله، إني لأستحي منه، الآن قتلت ولده، ثم أدخل لزيارته، فقال له عيسى بن موسى: اسكت، ولأخيه إبراهيم ترثية :
سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا.... فإن بها ما يدرك الطالب الوترا
وإنَّا أناس لا تفيض دموعنا.... على هالك منَّا وإن قصم الظهرا
ولست كمن يبكي أخاه بعبرة.... يعصرها من جفن مقلته عصرا
ولكنني أشفي فؤادي بغارة.... تلهب في قطري كتائبها الجمرا
ولبعضهم:
رحم الله شباباً.... قتلوا يوم الثنية
قاتلوا عنه بنيا.... ت وأحساب تقية
فرَّ عنه الناس طراً.... غير خيل أسدية
قتل الرحمن عيسى.... قاتل النفس الزكية(1/295)

59 / 205
ع
En
A+
A-