قالوا: وكان أول من رمى عسكر الحسين عمر بن سعد، ثم صاح عمر بالناس: ما تنتظرون به احملوا عليه؟ فقال الحسين: الله أكبر، أخبرني جدي ً قال: ((رأيت كلباً يلغ في دمي )) ولا أراك إلا إياه، فقال شمر: عليَّ كذا وكذا إن كنت أدري ما تقول؛ فالتفت الحسين فإذا بطفل له يتلظى من العطش، فقال: يا قوم، إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل، وقد كان على يده، فرماه رجل من القوم بسهم فذبحه، فجعل الحسين يبكي، ويقول: اللهمَّ، احكم بيننا، وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا، فنودي من الهواء: يا حسين، دعه فإن له مرضعاً في الجنة، ورماه حصين بن تميم بسهم فوقع في شفته؛ فجعل الدم يسيل من شفته وهو يبكي، ويقول: اللهم، إني أشكوا إليك ما يفعل بي وبإخوتي وأهلي، ثم اشتد به العطش، فهمَّ أن يلقي نفسه إلى القوم، ثم شرفت نفسه عن ذلك، فجاء وقت[صلاة] الظهر وصلى بأصحابه صلاة الخوف، فتكالبوا عليهم، فتشدد الحسين ولبس سراويل ضيقاً، فأعجلوه فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فسقط وشاركه شمر بن ذي الجوشن، وكان أبرص، ثم قتل من قتل من آل أبي طالب، والحاصل أنهم إحدى وعشرون نفساً، سبعة أنفس من إخوته، [وهم] : جعفر، والعباس، وعثمان، وأبو بكر، ومحمد الأصغر، وعبيد الله، وعبد الله، ثم أبناء الحسين: علي، وعبد الله، ومن أولاد أخيه الحسن: عبد الله، وأبو بكر، والقاسم، ومن أولاد عبد الله بن جعفر: عون، ومحمد، وعبيد الله، ومسلم بن عقيل قتل بالكوفة، وجعفر بن عقيل، وعبد الرحمن بن عقيل، وعبيد الله بن عقيل، ولمسلم بن عقيل، محمد وعبد الله، ثم أبو سعيد بن عقيل.(1/261)
هذه رواية (النجم الثاقب في مناقب علي بن أبي طالب) وروي أيضاً في بعض مناقب علي -عليه السلام-. وفيهم يقول سراقة البارقي :
عيني أبكي بعبرة وعويل.... واندبي إن ندبت آل الرسول
سبعة منهم لصلب علي.... قد أبيدوا وسبعة لعقيل
لعن الله حيث حل زياد.... وابنه والعجوز ذات البعول
وهذا الشعر يومي أنهم كلهم من ولد علي وعقيل لا غير، والصحيح ما تقدم أن فيهم من ولد جعفر من ذكر، فقتل الحسين عليه السلام يوم الجمعة[يوم عاشوراء] لعشر مضين من المحرم سنة إحدى وستين سنة وقتل وهو ابن أربع وخمسين سنة.
قيل لرجل شهد كربلاء مع عمر بن سعد: [ويحك!!] أقتلتم ذرية رسول الله ً:يا ويحكم! فقال: عضضت بالجندل إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا، ثارت علينا عصابة، أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، وتُلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول [حائل] بينها وبين الورود على [حياض] الموت إلا الاستيلاء على الملوك، ولو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنا فاعلين لا أمَّ لك.
وكانت مدة ظهوره وانتصابه للأمر إلى أن قتل شهراً واحداً ويومين، ودفن جسده في كربلاء، ورأسه مختلف في مشهده -عليه السلام- على أقوال، فمنهم من قال: إنه رُدَّ إلى المدينة مع السبايا، ثم رُدَّ إلى الجسد بكربلاء فدفن معه.
قاله هشام وقيل: إنه دفن بالمدينة عند [قبر] أمه فاطمة، قاله ابن سعد كاتب الواقدي.
وقيل: إنه بدمشق، ذكره ابن أبي الدنيا والبلاذري في تأريخه، وابن عساكر.(1/262)
وقيل: إنه بمسجد الرقة، والقول الخامس: إن خلفاء مصر نقلوه من دمشق إلى عسقلان، ثم نقلوه إلى القاهرة، وله مشهد عظيم.
قال حاكي هذه الأقوال: وعلى الجملة في أي مكان كان رأسه وجسده فهو ساكن في القلوب، قال: وفي المعنى أنشد بعض أشياخنا:
لا تطلبوا المولى الحسيـ.... ـن بأرض شرق أو بغرب
ودعوا الجميع وعرجوا.... نحوي فمشهده بقلبي
قالوا: ولما وصلت السبايا المدينة [لم يبق أحد حتى خرج] وجعلوا يضجون ويبكون، وخرجت زينب بنت عقيل بن أبي طالب كاشفة شعرها تضجُّ: وآحسيناه!!، وآ إخوتاه!! وآ أهلاه!!، ثم قالت:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم.... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقد.... منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم.... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
في أربعة آلاف، وابن زياد في ثلاثين ألفاً، ثم التقوا[يوماً] وكانت لسليمان في أول النهار، ثم عادت عليه في آخره، فقتل سليمان، وافترق التوَّابون.(1/263)
قال ابن جرير : فلما فرغ ابن زياد من التوابين جاءه نعي مروان، فوثب عليه المختار بن أبي عبيد وجاءته الإمداد من البصرة، والمدائن، والأمصار، وأقام معه إبراهيم بن الأشتر النخعي، وخرجت الشيعة معه ينادون: يا ثارات الحسين، فقتل المختار من شهد قتل الحسين بأقبح القتلات وأشنعها، فلم يبق من الذين قاتلوا مع عمر بن سعد أحد، وبعث إلى الذي حمل رأس الحسين [إلى زياد] فأحاطوا بداره فاختبأ في الكنيف فأخرجوه ومثلوا به وحرقوه، وقال المختار: لأقتلنَّ رجلاً يرضى بقتله أهل السماوات وأهل الأرض، وكان قد أعطى عمر بن سعد أماناً على أن لا يخرج من الكوفة، فأتى رجل إلى عمر، فقال له: قد قال المختار كذا وكذا، والله ما يريد سواك، فأرسل إليه عمر ولده حفصاً، وقال له: يقول لك أبي أن تفي لنا بالذي وعدتنا وبالذي كان بيننا، فقال له المختار: إجلس، ثم سار رجلان فغابا ثم عادا وبيد أحدهما رأس عمر بن سعد، فقال ولده حفص: أقتلتم أبا حفص؟ فقال[له] المختار: وأنت تطمع في الحياة بعده، لا خير لك فيها، ثم ضرب عنقه، وقال المختار: عمر بالحسين، وحفص بعلي بن الحسين ولا سواء، ثم قال: والله لو قتلت ثلاثة أرباع قريش ما وفوا ولا بأنملة من أنامله، ثم قتل شمراً أقبح قتلة، وقيل: ذبحه كما ذبح الحسين، وواطأ الخيل صدره وظهره، وبعث المختار بالرؤوس إلى محمد بن الحنفية.(1/264)
قالوا: ثم جاء ابن زياد فنزل الموصل في ثلاثين ألفاً؛ فجهزَّ المختار إليه إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف، وكان على ميمنة ابن زياد حصين بن نمير السكوني من كندة، وإلى ميسرته عمير بن الحباب السلمي وكان أبو عبيدة يقول: هو فارس الإسلام، فقال حصين بن نمير لابن زياد: إن عمير بن الخباب غير ناس قتلى المرح، وإني لا أثق لك به؛ فقال ابن زياد: أنت لي عدو؛ فقال: ستعلم.
قال ابن الحباب: لما كان في الليلة التي يريد فيها ابن زياد أن يواقع ابن الأشتر في صبيحتها خرجت إليه وكان لي صديقاً، ومعي رجل من قومي، فسرت في عسكره، وكان عليه قميص هروي وملاة، وهو متوشح بسيفه، وهو يأمر في عسكره وينهى، فالتزمته من ورائه، فو الله ما التفت إليَّ ولكن قال: من هذا؟ فقلت: عمير بن الحباب، فقال: مرحباً!! كن بهذا الموضع حتى أعود إليك، فقلت لصاحبي: أرأيت أشجع من هذا قط؟ يحضنه رجل من عسكر عدوه ولا يدري من هو، ولا يلتفت إليه، ثم عاد إلي، وقال: ما الخبر؟ فقلت: القوم كثيرة، والرأي أن تناجزهم فإنه لا صبر لهذه العصابة القليلة على مطاولة الجمع الكثير، وإني متحرك عنك بثلث الناس غداً؛ فلما التقوا كانت على أصحاب إبراهيم أول النهار، ثم تراجع الناس آخر النهار، ونكس عمير بن الحباب رايته، ونادى: يا لثارات المرج، وانخزل بالميسرة كلها، ولم يكن فيها إلا قيس، فلم يعصوه واقتتل الناس فانكشف أصحاب ابن زياد، ووضع السيف فيهم، وكان من غرق منهم أكثر ممن قتل، قال ابن الأشتر: ثم ضربت رجلاً على شاطئ هذا النهر فشممت في سيفي رائحة المسك، فاطلبوه، وانظروا من هو؟ فأتوا(1/265)