وأما ابن الزبير فإنه قال: الآن آتيكم، ثم خرج في الليل إلى مكة، وخرج الحسين في الليلة الآتية، وهو يقول:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ }[القصص:21]، فلما دخل مكة {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ }[القصص:22]، فلما وصل مكة وردت عليه كتب أهل الكوفة أن صل إلينا، وإلا فأنت آثم؛ فلما عزم على المسير جاءه ابن عباس ونهاه عن ذلك، وقال: يا ابن عم، إن أهل الكوفة قوم غدر قتلوا أباك، وخذلوا أخاك، وطعنوه وسلبوه، وسلموه إلى عدوه؛ فأبى الحسين، وعزم على المسير؛ فقال له ابن عباس: إن كرهت المقام بمكة خوفاً على نفسك فسر إلى اليمن فإن بها عزلة ولنا بها أنصار، وبها قلاع وشعاب، واكتب إلى أهل الكوفة، فإن أخرجوا أميرهم وسلموها إلى نائبك فسر إليهم، فإنك إذا سرت إليهم على هذه لم آمن عليك منهم، وإن عصيتني فأنزل أولادك وأهلك هاهنا، فوالله إني لخائف عليك أن تقتل كما قتل عثمان، ونساؤه وأهله ينظرون إليه.
ولما بلغ ابن الحنفية مسيره، وكان يتوضأ وبين يديه طشت فبكى حتى ملأه بدموعه، ولم يبق بمكة إلا من حزن لمسيره، فلما كثروا عليه أنشد :
سأمضي وما في الموت عارعلى الفتى.... إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه.... وفارق مثبوراً وخالف مجرما
فإن عشت لم أذمم وإن مت لم ألم.... كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما
ثم قرأ {وكان أمر الله قدراً مقدوراً}[الأحزاب:38].
وروي أنهم سمعوه مرة في زمن معاوية، وقد أراد أخذ العهد ليزيد في حياته، فسمعوا الحسين ينشد بيتين لابن مفرغ الحميري :(1/256)


لا دعوت السوام في غسق الصبح.... مغتراً ولا دعوت يزيدا
يوم أعطي على المهابة ضيماً.... والمنايا يرصدنني أن أحيدا
فعرفوا أنه سوف يخرج على يزيد.
قالوا: فلما خرج من مكة سابع ذي الحجة وصل إلى بستان بني عامر، فلقيه الفرزدق الشاعر، وقد كان ذلك اليوم يوم التروية، فقال له: إلى أين يا ابن رسول الله، ما أعجلك عن الموسم؟ فقال [له] : لو لم أعجل لأخذت أخذاً، فأخبرني عن ما وراءك يا فرزدق؟ فقال: تركت الناس بالعراق قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية.
وكان الوالي على الكوفة يومئذٍ النعمان بن بشير، فكتب إليه يزيد بن معاوية بتسليم الأمر لعبيد الله بن زياد، فجهزَّ عمر بن سعد بن أبي وقاص لقتال الحسين في أربعة آلاف، وقال له: اكفني هذا الأمر، وكان عمر يكره قتال الحسين. فقال: اعفني، وقد كان ولاه الري وخراسان، فقال: قاتلهم وإلا عزلتك، فقال: أمهلني الليلة فنظر، فاختار ولاية الري على قتل الحسين فلما أصبح غدا إليه، وقال: أنا أقاتله.
قال ابن سيرين : وقد ظهرت كرامات علي بن أبي طالب في هذا، فإنه لقي عمر بن سعد يوماً وهو شاب، فقال له: ويحك يا ابن سعد!!، كيف بك إذا قمت مقاماً تخيَّر فيه بين الجنة والنار فتختار النار.(1/257)


قالوا: ولما وصل الحسين -عليه السلام- كربلاء وقف ليختار مكاناً لينزل فيه فإذا سواد الخيل قد أقبل كالليل فنزلوا مقابلهم، ومنعوهم الماء ثلاثة أيام، فناداهم بعض عسكر عمر بن سعد: يا حسين، أما تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء، والله ما تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً، وناداه أيضاً عمر بن الحجاج: يا حسين، هذا الماء تلغ منه الكلاب، وتشرب منه خنازير أهل السواد والحمير والذئاب، وما تذوق أنت منه قطرة حتى تذوق الحميم في نار الجحيم، وكان سماع هذا القول على الحسين وأصحابه أشد من منعهم الماء.
قال: فلما اشتد بالحسين وأصحابه العطش؛ بعث إلى عمر بن سعد يطلب الاجتماع به فاجتمع خلوة، فقال له عمر: ما جاء بك؟ فقال: أهل الكوفة.
فقال: أما عرفت ما فعلوا معكم؟ فقال: من خادعنا في الله أنخدعنا، فما ترى دعوني أرجع فأقيم بمكة، أو أذهب إلى بعض الثغور أقيم به، فقال: اكتب إلى ابن زياد بذلك.
فكتب إلى ابن زياد [بما قال] فهم ابن زياد أن يجيبه. فقال شمر بن ذي الجوشن الكلابي: لا تقبل منه حتى يضع يده في يدك، فإنه إن أفلت كان أولى بالقوة منك، وكنت أولى بالضعف منه. قال: نعم.
فكتب إلى ابن سعد: فإني لم أبعثك إلى حسين تمنيه السلامة، وتكون شافعاً له عندي، فإن نزل على حكمي ووضع يده في يدي فابعث به إليَّ وإن أبى فازحف عليه واقتله وأصحابه وأوطء الخيل صدره وظهره، وإن أبيت فاعتزل أمرنا، وسلِّمه إلى شمر بن ذي الجوشن، فقد أمرناه فيك بأمر، وكتب في أسفل الكتاب:
الآن حِين تَغَلْغَلْته حِبالُنا.... يرجو الخلاص ولات حين خلاص(1/258)


ودفع الكتاب إلى شمر، وقال له: اذهب إليه فإن فعل ما أمرته به، وإلا فاضرب عنقه، وأنت الأمير على الناس.
فلما وصل شمر إلى عمر، ناداه عمر: لا أهلاً ولا سهلاً يا -أبا الأبرص- لا قرَّب الله دارك، ولا أدنى مرادك، وقبَّح ما جئت به، ثم قرأ الكتاب، وقال: والله لقد نهيته عمَّا كان في عزمه، ولقد أذعن ولكنك شيطان، وبعث عمر إلى الحسين فأخبره بما جرى، فقال: والله، لا وضعت يدي في يد ابن مرجانة أبداً، ثم إن عمر نادى: يا خيل الله، اركبي، فزحفوا إليه، وعلم الحسين أنهم قاتلوه، فعرض على أصحابه الانصراف، وكذلك على أهله، وأن يتفرقوا عنه فبكوا، وقالوا: قبح الله العيش بعدك!!، وسعت أخته زينب بنت علي فقامت تجر ذيولها، وتقول:
واثكلاه!! ليت الموت أعدمني الحياة، قبل يموت أخي الحسين خليفة الماضين وثمال الباقين، ثم لطمت وجهها والحسين يعزيها وهي لا تقبل عزاءً، ثم قال الحسين: ما يقال لهذه الأرض؟ فقالوا : كربلاء. فبكى، وقال: أخبرتني أم سلمة، قالت: كان جبريل –عليه السلام- عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكُنْتَ معي فبكيت، فقال النبي: ((دعي ابني)). فأخذك ووضعك في حجره، فقال له جبريل –عليه السلام-: ((أتحبه؟)) فقال: ((نعم)). فقال:((إن أمتك ستقتله، وإن شئت[أن] أريك تربة أرضه التي يقتل فيها)). فقال: ((نعم))؛ فبسط جبريل جناحه على أرض كربلاء.
[فقال: هذه أرض كربلاء] فأراه إياها، فلما قيل للحسين: هذه أرض كربلاء. قال: هذه والله الأرض التي أخبربها جبريل رسول الله ً، وأني أقتل بها.(1/259)


وكان عسكر الحسين -عليه السلام- خمسة وأربعين فارساً ومائة راجل.
قال المسعودي: قتل منهم ثمانون نفساً، ولم يحضر قتال الحسين أحد من أهل الشام، بل كلهم من أهل الكوفة ممن كاتبه، وكانوا ستة آلاف مقاتل، فأعطى الحسين رايته أخاه العباس وجعل البيوت والحرم خلفه، فأطلق القوم النار ورأى البيوت، فناداه شمر: يا حسين، تعجلت النار في الدنيا، فقال له الحسين: يا ابن راعية المعزى، أتقول لي هذا، أنت والله أولى بها صلياً.(1/260)

52 / 205
ع
En
A+
A-