[ذكر استشهاد أمير المؤمنين علي - عليه السلام -]
وأما البيت الثاني في منظومة السيد، فشرحه: أن عبد الرحمن بن مُلجم المرادي اللعين، كان يسمى أشقاها، أي أشقى أمة النبي ً، وذلك لما روي عن النبي أنه قال لعلي -عليه السلام-:((من أشقى الأولين والآخرين))؟ فقال: الله ورسوله أعلم، فقال:((أشقى الأولين عاقر الناقة، وأشقى الآخرين الذي يضربك يا علي)) وأشار إلى حيث يضرب.
وروي أن علياً -عليه السلام- اشتكى شكوى -أي مرض- فلما شفي، قالوا له: لقد خفنا عليك، قال: ما خفتم عليَّ؟ قالوا: الموت، قال : لعمري ما من الموت أمان، ولكن حدثني الصادق المصدوق : ((أني لن أموت حتى تخضب لحيتي هذه من دم رأسي، يضربني أشقى هذه الأمة، كما عقر ناقة الله أشقى ثمود)).
وروى الحاكم أبو سعيد عن عبد الله بن يشيع، قال: خطبنا أمير المؤمنين، وقال: فيما عهد إليَّ رسول الله ً:((لتخضبَّن هذه من دم هذا )) فقالوا : يا أمير المؤمنين، ألا تخبرنا به لنبيد عترته، قال : أنشد الله امرءاً قتل غير قاتلي.
وروي أنه كان إذا رأى ابن مُلجَم، تمثل بقول عمرو بن معدي كرب:
أريد حياته ويريد موتي.... عذيرك من خليلك من مراد
فيقول له أصحابه: هلا تقتله؟ فيقول: كيف أقتل قاتلي، وتارة يقول: إنه لم يقتلني فكيف أقتل من لم يقتلني.
وروي أنه لما خرج إلى صرح المسجد تصايح البط خلفه فزجرهنَّ بعض الحاضرين، فقال: دعوهنَّ فإنهنَّ نوائح.(1/241)


وعن أبي الأسود الدؤلي قال سمعت علياً يقول: أتاني عبد الله بن سلام وقد أدخلت رجلي في الغرز، فقال لي: أين تريد؟ فقلت: العراق. فقال: أما إنك لو جئتها ليصيبنَّك [بها] ذباب السيف، ثم قال علي -عليه السلام-: والله لقد سمعت رسول الله ً يقول مثله قال أبو الأسود:فعجبت منه رجل محارب يحدث بمثل هذا عن نفسه.
وروي أنه -عليه السلام- لم ينم تلك الليلة التي قتل في صبيحتها، بل بات يمشي بين باب المسجد والحجرة، وهو يقول: والله إنها الليلة التي وعدت فيها، والله ما كذبت ولا كذبت.
ولما أراد أن يخرج من الدار تعلق مئزره بالباب، فأنشأ يقول:
أشدد حيازيمك للموت.... فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت.... إذا حلَّ بواديكا
ثم مضى إلى المسجد، وهو يقول:
خلوا سبيل المؤمن المجاهد.... في الله لا يعبد غير الواحد
ويوقض الناس إلى المساجد
وكان ابن ملجم -لعنه الله- كان قد واعد ثلاثة رجال على أن يقتل كل واحد منهم رجلاً، علياً وعمراً ومعاوية، وجعلوا ذلك ليلة من ليالي رمضان، فقال ابن مُلَجْمَ: أنا أكفيكم علياً، والقصة مشهورة.
قالوا: ولما دخل شهر رمضان كان علي يفطر عند الحسن ليلة، وعند الحسين ليلة، وعند عبد الله بن جعفر ليلة.
وكان لا يزيد على ثلاث لقم، ويقول: أحبُّ أن يأتيني أمر الله وأنا خميص، وإنما بقي ليلة أو ليلتان.
وروي أنه رأى رسول الله ً في المنام، فشكى عليه ما لقي من أهل العراق فوعده بالراحة منهم عن قريب، فما لبث بعد ذلك [إلا] جمعة أو جمعتين.(1/242)


قالوا: وإن ابن مُلجَم لقي قطاماً، وكان أمير المؤمنين قد قتل أباها وأخاها يوم النهروان، وكانت جميلة فلما رآها أعجبته فخطبها فوعدته بالزواجة على مهر سمته، وعلى قتل علي، والقصة مشهورة.
فلما كان تلك الليلة كمَّن له في المسجد و[كان] معه اثنان: وردان، وشبيب بن بجرة فابتدأه بالضربة شبيب فلم يصبه، وثناه ابن ملجم[لعنه الله] فأصابه في رأسه، فقال علي -عليه السلام-: فزت ورب الكعبة، لا يفوتنَّكم الرجل فأخذ، وقتل، واختلف في كيفية قتله -لعنه الله-.
وأما وردان فهرب إلى بيته فلحقه من قتله، وأما شبيب فلزمه في المسجد فخاف لازمه من سيفه، فأرسله فانسل ساعة الزحمة، وسلم من القتل، وفي قتل ابن ملجم لعلي -عليه السلام- يقول عمران بن حطان وهو من علماء الخوارج وفصحائهم:
يا ضربة من تقي ما أراد بها.... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبه.... أوفى البرية عند الله ميزانا
أخلق بقوم بطون الطير أقبرهم.... لم يخلطوا دينهم كفراً وعدوانا
فأجابه القاضي أبو الطيب الشافعي بهذه الأبيات:
إني لأبرأ مما أنت قائله.... عن ابن مُلْجمَ الملعون بهتانا
يا ضربة من شقي ما أراد بها.... إلا ليهدم للإسلام أركانا
إني لأذكره يوماً فألعنه.... ديناً وألعن عمران بن حطانا
عليه ثم عليه الدهر متصلاً.... لعائن الله إسراراً وإعلانا
فأنتما من كلاب النار جاء به.... نص الشريعة برهاناً وتبيانا
وروى ابن عبد البر في كتاب (الاستيعاب) لبكر بن حماد شعراً:
[قل لابن مُلْجَم والأقدار غالبة.... هدمت ويلك للإسلام أركانا](1/243)


قتلت أفضل من يمشي على قدم.... وأول الناس إسلاماً وإيمانا
وأعلم الناس بالقرآن ثم بما.... سنَّ الرسول لنا نوراً وتبيانا
صهر النبي ومولاه وناصره.... أضحت مناقبه نوراً وبرهانا
وكان منه على رغم الحسود له.... مكان هارون من موسى بن عمرانا
وكان في الحرب سيفاً صارماً ذكراً.... ليثاً إذا لقي الأقران أقرانا
ذكرت قاتله والدمع منحدر.... فقلت سبحان رب العرش سبحانا
إني لأحسبه ما كان من بشر.... يخشى المعاد ولكن كان شيطانا
أشقى مراد إذا عدت قبائلها.... وأخسر الناس عند الله ميزانا
[كعاقر الناقة الأولى التي جلبت.... على ثمود بأرض الحجر خسرانا]
قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها.... قبل المنية أزماناً فأزمانا
فلا عفا الله عنه ما تحمله.... ولا سقى قبر عمران بن حطانا
لقوله في شقي ظل مجتهدا.... ونال ما ناله ظلماً وعدوانا
(يا ضربة من تقي ما أراد بها.... مخلداً قد أتى الرحمن غضبانا
في ضربة من غوي أوردته لظى.... فإنه لم يرد قصداً بضربته
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا).... إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا
وروى في كتاب (كفاية الطالب في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) لأبي عبد الله محمد بن يوسف الكنجي الشافعي قصة عجيبة عن بعضهم.
قال: كنت أجول في بعض الفلوات إذ أبصرت ديراً فإذا في الدير صومعة، وفيها راهب فأشرف عليَّ فقلت له: من أين تأتيك الميرة ؟ فقال: من مسيرة شهر، فقلت له: حدثني بأعجب ما رأيت في هذا الموضع.(1/244)


فقال: نعم، بينا أنا ذات يوم أدير نظري في هذه البرية، وأتفكرُّ في عظمة الله وقدرته إذ رأيت طائراً أبيض مثل النعامة قد وقع على تلك الصخرة، وأومأ إلى صخرة بيضاء فتقيأَ رأساً ثم رجلاً، ثم ساقاً فإذا هو كل ما تقيأَ عضواً من تلك الأعضاء التأم بعضها إلى بعض أسرع من البرق الخاطف بقدرة الله سبحانه حتى استوى رجلاً جالساً فإذا هم بالنهوض نقره الطائر نقرة فقطعه أعضاء ثم رجع يبتلعه، فلم يزل على ذلك أياماً، فكثر والله تعجبي منه، وازددت يقيناً، وعلمت أن لهذه الأجساد حياة بعد الموت، ولم يزل على ذلك أياماً، والتفت إليه يوماً.
فقلت: أيُّها الطائر، سألتك بالذي خلقك إلا أمسكت عنه حتى أساله، فيخبرني بقصته.
فأجابه الطائر بصوت عربي طليق : لربي الملك والبقاء، الذي يفنى كل شيء ويبقى، أنا ملك من ملائكة الله موكَّل بهذا الجسد لما أجرم، وأمرني الله عز وجل أن آتي هذا المكان، لتسأله وتخاطبه فيخبرك بما كان منه.
فقلت: يا هذا الرجل المسيء إلى نفسه، ما قصتك؟ ومن أنت؟ فقال: أنا عبد الرحمن بن مُلْجَم قاتل علي بن أبي طالب فإني لما قتلته، وسارت روحي بين يدي الله، ناولني صحيفة، فيها مكتوب ما عملت من الخير والشر، منذ ولدت إلى أن قتلت علياً، فأمر الله هذا الملك يعذبني إلى يوم القيامة فهو يفعل بي ما قد رأيت، ثم سكت فنقره الطائر [نقرة] فتفرقت أعضائه، ثم ابتلعه عضواً عضواً.
فلما فرغ منه قال: يا آدمي، إني ماضٍ عنك بهذا الجسد إلى جزيرة من البحر الأسود، التي تخرج منها هوامَّ أهل النار إلى يوم القيامة.(1/245)

49 / 205
ع
En
A+
A-