[ذكر انزواء الدنيا عن الإمام علي، وخبر استشهاده-عليه السلام-]
قال السيد صارم الدين[-عليه السلام-] :
هذا ومس من الدنيا أبو حسن.... ما ليس يقنع فيها منه بالعذرِ
إذ أغمدت سيف أشقاها بهامته.... وجللته حساماً قاطع الأثرِ
هذان البيتان لكل بيت منهما معنى، فالأول منهما معناه: أن الدنيا إنزوت عن أمير المؤمنين، ومالت إلى معاوية حتى آل الكلام إلى أن ثلاثة تحالفوا على قتل علي عليه السلام ومعاوية، وعمرو بن العاص فما قتل إلا علي في تلك الليلة.
وقد أشار الإمام المهدي عليه السلام في قصيدته القافية إلى طرف من ميل الدنيا عنه -عليه السلام- وإقبالها على ضده حيث قال:
عاديته فترى ابن هند حازه.... عن أكثر الأمصار والآفاق(1/236)


ولا كلام أن الدهر والدنيا ينحرفان عن الكملة، ومن ازداد نبلاً ازداد عنهم انحرافاً وميلاً، ومن أحسن ما وجدته من الأمثلة العجيبة، والأعذار المبينة المضيئة ما ذكره ابن أبي الحديد قال: قلت: للنقيب أبي جعفر وكان من سادات العترة، وعلماء الإمامية، وكان لا يذكر المشائخ إلا بخير، وقلت له: ما سبب حب الناس لعلي بن أبي طالب عليه السلام وعشقهم له وتهالكهم عليه [مع أنه كان مزوياً من الدنيا] ودعني عن الجواب من جهة الشجاعة، والعلم، والفصاحة، وغير ذلك من الخصال التي رزقه الله منها الكثير الطيب؟ قال: فضحك [وقال لي:كم تجمع جراميزك علي] ثم قال: هاهنا مقدمة ينبغي أن تعلم، وهي أن أكثر الناس مزويون من الدنيا، أما المستحقون فلا ريب أن أكثرهم محرومون نحو عالم يرى أنه لا حظ له في الدنيا، ويرى جاهلاً [غيره] مرزوقاً وموسعاً عليه، أو شجاع قد أبلي في الحروب وانتفع بموضعه ليس له عطاء يكفيه، ويقوم بضراوته ويرى غيره وهو جبان فشل يفرق من ظله، وهو مالك بحظ عظيم من الدنيا وقطعة وافرة من المال[والرزق] أو عاقل شديد التدبير صحيح العقل، قد قدر عليه رزقه، وهو يرى غيره أحمق مائقاً تدرَّ عليه الخيرات، وتجتلب أخلاف الرزق، أوذي دين قويم وعبادة حسنة وإخلاص وتوحيد وهو محروم ضيق الرزق، وترى غيره يهودياً أو نصرانياً أو زنديقاً كثير المال حسن الحال، حتى أن هذه الطبقة المستحقة يحتاجون في أكثر الأوقات إلى الطبقات التي لا استحقاق لها، وتدعوهم الضرورة إلى الذل لهم والخضوع بين أيديهم، إما لدفع ضرر أو استجلاب نفع، ودون هذه الطبقات(1/237)


من ذوي الاستحقاق أيضاً [على] ما نشاهده عياناً من نجار حاذق، أو بنَّاء[عالم] أو نقَّاش بارع، أو مصَّور لطيف، [وهم] على غاية ما يكون من ضيق الرزق وقعود الدهر بهم، وقلة الحيلة لهم، وغيرهم ممن ليس يجري مجراهم، ولا يلحق طبقتهم مرزوق مرفوع قدره كثير المكتسب، طيب العيش، واسع الرزق، فهذه أحوال ذوي الاستحقاق، وأما الذين ليسوا من أهل الفضائل فحشو العامة، فإنهم أيضاً لا يخلون من الحقد على الدنيا، والذم لها، والحنق [عليها] والغيظ منها لما يلحقهم من حسد أمثالهم وجيرانهم، ولا نرى أحداً منهم قانعاً بعيشته ولا راضياً بحالته، بل يستزيد ويطلب حالاً فوق حاله.(1/238)


قال: فإذا عرفت هذه المقدمة فمعلوم أن علياً -عليه السلام- كان مستحقاً محروماً، بل هو أمير المستحقين المحرومين وسيدهم وكبيرهم، ومعلوم أن الذين ينالهم الضيم، وتلحقهم المذلة والقضيمة يتعصب بعضهم لبعض، ويكونون[إلباًو] يداً واحدة على المرزوقين الذين ظفروا من الدنيا، ونالوا منها مآربهم لاشتراكهم في الأمر الذي أهمهم وساءهم، وغصهم ومضهم، واشتراكهم في الأنفة والحمية النفسانية والمنافسة لمن علاهم وقهرهم، وبلغ من الدنيا ما لم يبلغوه، فإذا كان هؤلاء أعني المحرومين متساوين في المنزلة والمرتبة، وبعضهم يتعصب لبعض، فما ظنك بما إذا كان منهم رجل عظيم القدر، جليل الخطر، كامل الشرف، جامع الفضائل محتوي[على] الخصائص والمناقب، وهو مع ذلك محروم[محدود] قد جرعته الدنيا علاقمها وعلتَّه[عللاً] بعد نهل من صبرها وصابها، ولقي منها ترحاً تارحاً وجهداً جاهداً، وعلا عليه من هو دونه، وحكم فيه وفي [بنيه و] أهله ورهطه من لم يكن ما ناله من الأمرة والسلطان في حسابه، ولا دائراً في خلده، ولا خاطراً بباله، ولا كان أحد من الناس يترقب له ذلك، ولا يراه به [في منامه] ثم كان آخر الأمر أن قتل هذا الرجل الجليل في محرابه، وقتل بنوه[بعده] وسبى حريمه ونساؤه، وتتبع أهله وبنو عمه بالقتل والطرد والتشريد[والسجون] مع فضلهم وزهدهم وعبادتهم وشجاعتهم وانتفاع الخلق بهم.(1/239)


فهل يكون في الممكن إلا أن يتعصب البشر كلهم مع هذا الشخص، وهل تستطيع القلوب إلا أن تحبه[وتهواه] وتذوب فيه، وتفنى في عشقه انتصاراً [له] وحمية [من أجله، وأنفة ممَّا ناله، وامتعاضاً مما جرى عليه] وهذا مركوز في الطباع ومخلوق في الغرائز، كما تشاهد إنساناً قد وقع في ماء عميق وهو لا يحسن السباحة، فإن الناس في الطبع البشري يرقَّون عليه رقة شديدة، وقد يلقي قوم[منهم] أنفسهم[في الماء] نحوه يطلبون تخليصه، لا يتوقعون على ذلك مجازاة بمال منه أوشكر أو ثواب أيضاً في الآخرة، فقد يكون فيهم من لا يعتقد أمر الآخرة، ولكنها رقة بشرية، وكأن الواحد منهم يتخيل في نفسه أنه[ذلك] الغريق.
هذا خلاصة ما ذكره ابن أبي الحديد وهو أمر محسوس تدعو إليه الطبيعة البشرية، أوردته لمناسبته ما ذكره السيد صارم الدين من ميل الدنيا عن علي -عليه السلام-، وقد أحسن مهيار حيث قال في هذا المعنى:
مالي لم أسبق إلى الغنم.... قسم الرجال وأغفلوا قسمي
الجهد لي والحق عندهم.... أظمأ ويروى معشر باسمي
ما هذه أولى معاتبة.... وقضية للدهر في ظلمي(1/240)

48 / 205
ع
En
A+
A-