وروى الحميدي في جامعه، فيما تفردَّ به مسلم، عن زيد بن وهب : أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي -عليه السلام- يوم سار إلى الخوارج، فقال علي: أيها الناس، إني سمعت رسول الله ً يقول: ((يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليست قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤن القرآن يحسبونه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميَّة)) لو يعلم الجيش الذين يلقونهم ما قضي لهم على لسان نبيه ً لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد ليس له ذراع، على عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض، أفتذهبون إلى معاوية وأهل الشام، وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم، والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنهم [قد] سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على سرح الناس، فسيروا فساروا فلما التقوا وعلى الخوارج عبد الله بن وهب الراسبي، فقال لأصحابه: ألقوا الرماح، وسلوا السيوف من جفونها، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حررواء، فسلوا سيوفهم، وشجرهم الناس برماحهم فقتل بعضهم على بعض، وما قتل من الناس يعني أصحاب علي -عليه السلام-[يومئذٍ] إلا رجلان.
فقال علي -عليه السلام-: إلتمسوا فيهم المخدج، فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي بنفسه حتى أتى أناساً قد قتل بعضهم على بعض، فقال: أقلبوهم فوجدوه مما يلي الأرض فكبرَّ، ثم قال: صدق الله وبلغَّ رسوله.(1/231)
قالوا: فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين، آلله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا الحديث من رسول الله ً؟ فقال: إي، والله الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه عبيدة السلماني ثلاثاً وهو يحلف.
ومن الخوارج عبد الرحمن بن مُلجم المرادي، وسيأتي ذكره قريباً.
ومنهم قطري بن الفجاءة المازني، وهو مراد السيد بقوله: وداعي غيها قطري، وكان من أمره أنه خرج أيام مصعب بن الزبير، وقاتل عشرين سنة يسلم عليه بالخلافة، وكان هزم جيشاً بعد جيش للحجاج بن يوسف حتى توجه إليه سفيان بن الأبرد الكلبي فقتله، وسمي أبوه الفجاءة؛ لقدومه من اليمن فجأة، وكان قطري شجاعاً لا يهاب الموت، وله في ذلك أبيات أولها:
أقول لها وقد طارت شعاعاً.... من الأبطال ويحك لن تراعي
قال ابن خلكِّان: وهي تشجع أجبن خلق الله -سبحانه وتعالى-.(1/232)
[طرف من أخبار النواصب وذكر بعض رجالهم]
قوله عليه السلام :
ومن نواصب ضلت في عقائدها.... وما استقادت لمأثور ولا أثرِ
عادت علياً وعادت بعده حسناً.... ثم الحسين لضغن بالنفوس غري
اعلم أن النواصب: اسم لمن نصب العداوة لآل محمد، فهم أدخل من الخوارج في العموم إذ الخوارج يجمعها تكفير علي وعثمان كما تقدم، وفي النواصب من يتولَّى عثمان، ولأن من النواصب جماعة من الصحابة كعبد الله بن الزبير، وغيره.
قال ابن أبي الحديد: كان ابن الزبير يبغض علياً، وينال منه، وقال مرة وهوفي البصرة وقد أقبل علي -عليه السلام-: جاءكم الوغد اللئيم، ومكث أيام ادعائه الخلافة أربعين جمعة لا يصلي فيها على النبي ً، وقال: لا يمنعني من ذكره إلا أن تشمخ رجال بأنافها، وفي رواية: أن له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم عند ذكره.
وروي أنه قال لعبد الله بن عباس: ما حديث أسمعه عنك؟ فقال [ابن عباس] : ما هو؟ فقال: تأنيبي وذمي فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((بئس الرجل المسلم يشبع ويجوع جاره )). فقال ابن الزبير: إني لأكتم بغض أهل هذا البيت منذ أربعين سنة وكان علي -عليه السلام- يقول: ما زال الزبير منَّا -أهل البيت- حتى نشأ ابنه عبد الله فأفسده وهو الذي حمل أباه على الخروج على أمير المؤمنين، وزينَّ لعائشة مسيرها إلى البصرة.(1/233)
وقد عد ابن أبي الحديد جماعة من الناس كانوا يبغضون علياً عليه السلام وأهله صحابة وغيرهم من التابعين، وعدد أسماءهم، ومن فضيع أعمال النواصب ما روى ابن أبي الحديد: أن الحجاج -لعنه الله- قال يوماً لعبد الله بن هاني: وهو رجل من بني أودحي من قحطان، وكان شريفاً في قومه، وقد شهد مع الحجاج مشاهده كلها،[وكان من أنصاره وشيعته] : والله ما كافأتك بعد ثم أرسل إلى أسماء بن خارجة سيد[بني] فزارة أن زوجَّ عبد الله بن هاني ابنتك ؛ فقال: لا، والله ولا كرامة؛ فدعا [له] بالسياط، فلما رأى الشر زوجَّه ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني، رئيس اليمامة أن زوِّج ابنتك من عبد الله بن هاني الأودي ؛ فقال: ومن أود، لا والله ولا كرامة لا أزوجه فقال الحجاج: عليَّ بالسيف؛ فقال: دعني [حتى] أشاور أهلي، [فشاورهم] فقالوا: زوجه، ولا تعرض نفسك لهذا الفاسق؛ فزوجه، فقال الحجاج[بن يوسف] : قد زوَّجتك بنت سيد فزارة، وبنت سيد همدان، وعظيم كهلان، وما أود هناك، فقال: لا تقل ذاك فإن لنا مناقب ليست لأحد من العرب، فقال : وما هي؟ فقال: ما سبَّ أمير المؤمنين عبد الملك في ناد لنا قط.
قال: منقبة والله. قال: وشهدنا صفين مع أمير المؤمنين معاوية سبعين رجلاً، وما شهد مع أبي تراب منَّا إلا رجل واحد، وكان[والله] ما علمته [امرء] سوء، فقال: منقبة والله، قال: ومنَّا نسوة نذرن إن قتل الحسين بن علي أن تنحر كل يوم واحدة عشر قلائص ففعلن.(1/234)
فقال : منقبة والله،[فقال] : وما منَّا رجل عرض عليه شتم أبي تراب ولعنه إلا فعل وزاد ابنيه حسناً وحسيناً وأمهما فاطمة. فقال: منقبة والله؛ فقال: وما أحد من العرب له من الصباحة والملاحة ما لنا؛ فضحك الحجاج، وقال: أما هذه يا ابن هانئ فدعها؛ لأنه كان ذميماً مشوه الخلقة، شديد الأدمة، مجدوراً، في رأسه عوج مائل الشدق، شديد الحول.
قالوا: وكان جد الأصمعي من النواصب، ففي الرواية أنه جاء إلى الحجاج، فقال: إن أبويَّ عقاني فسمياني علياً، فقال: ما أحسن ما توصلت به فقد وليتك سميك يعني شتمه، وأجريت لك كل يوم دانقين فلوساً فإن تعديتهما قطعت باقي يدك، وإنما قال له ذلك؛ لأنه قد كان سرق.
فقال علي -عليه السلام-: من يشهد عليه أنه أخرجها من الحرز فشهد عليه [بذلك] ؛ فقطع يده من أشاجعه، فقيل: ألا قطعتها من زنده، فقال: سبحان الله!! كيف يتوضأ؟ كيف يأكل؟ كيف يصلي؟
قال ابن خلكَّان: ولما مات عبد الملك الأصمعي.قال أبو قلابة :
لعن الله أعظماً حملوها.... نحو دار البلاء على خشبات
أعظماً تبغض النبي وأهل الـ.... ـبيت والطيبين والطيبات
قلت: وهذا يدل على أنه ورث النصب من جده.(1/235)