[ذكر طرف من أخبار حجر بن عدي - رضي الله عنه -]
وأما حجر بن عدي الكندي: فكان من حديثه أن المغيرة بن شعبة كان لا ينام عن شتم علي -عليه السلام- وشتم أصحابه والعيب لهم، والترحم على عثمان وأصحابه، وكان حجر بن عدي إذا سمع ذلك يقول: إياكم لعن الله وذم، وأشهد أن من تذمون أحق بالفضل والتقدم، ومن تمدحون أولى بالذم، فلما كان في آخر زمن المغيرة؛ فنال من علي، وقال في عثمان ما كان يقول؛ قام حجر وصاح: إنك لا تدري بمن تولع، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فقد حبستها عنَّا، وأصبحت مولعاً بذم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومدح المجرمين وتقريضهم؛ فقام معه نحو ثلاثين ألفاً، يقولون: صدق حجر؛ فدخل المغيرة بيته، فجاءه قومه قائلين له: علام تترك هذا الرجل يجتري عليك في سلطانك؟ ثم إن بلغ معاوية سخط عليك؛ فقال لهم: إني قد قتلته إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به مثل ما صنع بي فيقتله، وأنا فقد اقترب أجلي؛ فلا أقتل خير أهل هذا المصر.
فلما ولىَّ معاوية زياد بن أبيه الكوفة خطب فقال: أما بعد:
فإن غبَّ البغي وخيم، إن هؤلاء حمر فاشروا وأيم الله لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أحم ناحية الكوفة من حجر بن عدي، وأدعه نكالاً لمن بعده، ويل أمك يا حجر، سقط العشاء بك على سرحان.(1/221)


قال الطبري في روايته: إن زياداً خطب يوم الجمعة، فأطال الخطبة، وأخرَّ الصلاة؛ فقال له حجر بن عدي: الصلاة. فمضى زياد في خطبته، ثم قال: الصلاة، فمضى في خطبته؛ فأخذ حجر كفاً من حصى، وثار إلى الصلاة وثار الناس معه؛ فنزل زياد وصلى بالناس، وكتب إلى معاوية، فأمر معاوية إليه: اشدده بالحديد واحمله إليَّ؛ فأراد قوم حجر منعه، فقال لهم حجر: لا ولكن نطيع ونسمع؛ فلما دخل على معاوية قال: السلام عليك -يا أمير المؤمنين-؛ فقال له معاوية: والله، لأقتلنَّك ولا أستقيلك، أخرجوه فاضربوا عنقه فأخرجوه، فقال لهم: دعوني أصلي ركعتين فصلاهما وخفف، وقال: لولا أن تظنوا أني غير الذي بي؛ لأطلتهما، ثم قال لمن حضره من أهله: لا تطلقوا مني حديداً، ولا تغسلوا عني دماً فإني لاق معاوية غداً على الجادة ثم ضربت عنقه سادس ستة، أو سابع سبعة أحدهم ولده.
قالت العلماء: فقالت عائشة لمعاوية بمكة أين كان حلمك عن حجر بن عدي؟ فقال: يا أم المؤمنين، لم يكن يحضرني رشيد، فلما حضرت معاوية الوفاة جعل يغرغر بالموت، ويقول: إن يومي منك يا حجر بن عدي لطويل.
هذا ملخص خبر حجر مع معاوية اختصرته تنبيهاً على ما ذكره السيد صارم الدين بالبيت الأول، فلنتبع الإشارة إلى جملة من أحوال المذكورين في البيت الثاني، والله الموفق للصواب.(1/222)


[أمر عمرو بن العاص وحاله مع أهل البيت - عليهم السلام -]
والمراد بعمرو وصاحبه فيه، هو عمرو بن العاص بن وائل السهمي، وكان شديد العداوة لعلي -عليه السلام- ولأولاده؛ فروى المدائني : أنه لقي الحسن بن علي في الطواف، فقال: يا حسن، زعمت أن الدين لا يقوم إلا بك وبأبيك؛ فقد رأيت الله أقام معاوية فجعل الدين راسياً بعد ميله، وبيناً بعد خفائه، أفرضي الله بقتل عثمان؟ أو من الحق أن تطوف بالبيت كما يدور الجمل بالظعن [عليك ثياب كغرقئ] وأنت قاتل عثمان، والله إنه لألم للشعث، وأسهل للوعث أن يوردك معاوية حياض أبيك.
فقال له الحسن عليه السلام : إن لأهل النار علامات يعرفون بها: الإلحاد لأولياء الله، والموالاة لأعداء الله، والله إنك لتعلم أن علياً لم يرتب في الدين، ولم يشك في الله ساعة واحدة، وآيم الله لتنتهيَّن يا عمرو أو لأقدن خصيتيك بنواقد أشد من الحديد، فإياك من التهجين عليَّ؛ فإني من قد عرفت[لست بضعيف الغمرة ولا هش المشاشة، ولامرئ المأكلة و] إني من قريش كواسطة القلادة، يعرف حسبي، و لا أُدْعىَ لغير أبي، وأنت من تعلم ويعلم الناس، تحاكمت فيك رجال من قريش؛ فغلب عليك جزارها الأمهم حسباً، وأعظمهم لوماً، فإياك عني فإنك رجس، ونحن أهل [بيت] الطهارة أذهب الله عنَّا الرجس، وطهَّرنا تطهيراً؛ فأُفْحِمَ عمرو وانصرف كئيباً.
وأما معاوية فقد تقدم طرف من تبيين عناده الحق، وما قال الناس في دينه، وهل يجري عليه اسم الإسلام أم لا؟ ولا وجه لإعادة ذلك.(1/223)


[طرف من أخبار أبي موسى الأشعري]
وأما الأشعري: فهو عبد الله بن قيس، وهو الذي جازت عليه الخديعة الكبيرة التي كانت بسببها الفتنة العظيمة بعد تكرير التحذير عليه، وتأكيد الإنذار؛ فلم يغن الحذار حتى نظمت قصته في الأشعار
فقال الحريري :
فإن تك قد ساءتك مني خديعة.... فقبلك شيخ الأشعريين قد خدع
وقال الصاحب بن عباد: ذهب ثلثا الدين بالأشعريين، يعني: أبا موسى، وأبا الحسن المتكلم شيخ الفرقة الأشعرية وكان من حديث تحكيمه على سبيل الاختصار، أنه لما كان أواخر أيام صفين وأيقن معاوية أنه مغلوب، استشار عمرا بن العاص فقال: ترفع المصاحف فإن قبلوها اختلفوا، وإن ردوها اختلفوا، وآل الكلام إلى أن جعل الحكم إلى عمرو[بن العاص] وأبي موسى، بعد أن كره علي -عليه السلام- تحكيم أبي موسى، وقال: لا أرضى به، وإنه غير مرضي، وقد فارقني، وخذَّل الناس عني، ولكن هذا ابن عباس. قالوا : والله ما نبالي أنت كنت أو ابن عباس.
قال: فالأشتر؛ فقال الأشعث: وهل طبق سعة الأرض علينا إلا الأشتر؛ فقال علي -عليه السلام-: فإني أخاف أن يخدعه عمرو، فإن عمراً ليس من الله في شيء؛ فقال الأشعث: هو أحبُّ إلينا فبعثوا إلى أبي موسى فجاء، فقال: الأحنف بن قيس لعلي: يا أمير المؤمنين، إن شئت أن تجعلني حكماً أو ثانياً، أو ثالثاً فإنه لا يعقد عقدة إلا حللتها، ولن يحلَّ إلا عقدت، فأبى عسكر علي عليه السلام إلا أبا موسى الأشعري.
وكان ابن عباس -رحمه الله- يعظ أبا موسى، ويقول: إنه عمرو، فلا تغتر بقوله، وقال النجاشي : شاعر -عليه السلام- في ذلك:(1/224)


أبا موسى جزاك الله خيراً.... عراقك إن حظك في العراقِ
وإن الشام قد نصبوا إماماً.... من الأحزاب معروف النفاقِ
وإنَّا لا نزال لهم عدواً.... أبا موسى إلى يوم التلاقي
فلا تجعل معاوية بن صخر.... إماماً ما مشى قدم بساقِ
ولا يخدعك عمرو إن عمراً.... أبا موسى لداهية الرفاق
قالوا: وقد كان وقع بين أبي موسى وعمرو بن العاص أن يخلعا علياً ومعاوية، ويجعلاها في عبد الله بن عمر بن الخطاب؛ فبهذا انخدع أبو موسى، فلما كان وقت الخطبة قال عمرو لأبي موسى: اصعد وتكلَّم، فقال له ابن عباس: قدم الرجل قبلك، ثم تكلَّم بعده فإنه غدَّار، فلم يسمع [أبو موسى] وصعد قبل عمرو، وقال: اشهدوا أني قد خلعت علياً ونزع خاتمه، وقال: كما تروني خلعت هذا الخاتم.
وحكى ابن عبد ربه أنه قال: كما خلعت سيفي هذا من غمده وأصلت سيفه، ثم صعد عمرو فحمد الله، وقال: سمعتم خلعه صاحبه وقد خلعته أنا- وبيده خاتم-، وقال: وأثبتُّ صاحبي كما أثبت الخاتم في أصبعي، وفي رواية ابن عبد ربه: كما أثبت سيفي هذا في غمده وكان قد أصلته، ثم أغمده، فقال له أبو موسى: لا وفقك الله، غدرت وخنت، مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فقال له عمرو: ومثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والتمس أصحاب علي أبا موسى فركب ناقته ولحق بمكة، فكان ابن عباس يقول: قبحَّ الله أبا موسى!! فقد حذَّرته فما عقل، وكان أبو موسى يقول: حذَّرني ابن عباس غدرة الفاسق.
فقال بعض أصحاب علي في ذلك شعراً:
لعمرك ما ألفى مدى الدهر خالعاً.... علياً بقول الأشعري ولا عمرو(1/225)

45 / 205
ع
En
A+
A-