فيا عجباً!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عهد إلى آخر بعد وفاته، لشَّد ما تشطرا ضرعيها فصيَّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار[فيها] والاعتذار منها، فراكبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحَّم، فمني الناس -لعمر الله- بخبط وشماس وتلون واعتراض، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة، حتى إذا مضى [الآخر] لسبيله جعلها في جماعة، وزعم أني كأحدهم فيا لله!! و للشورى!! متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم!! حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، ولكني أسففت إذا أسفوا وطرت إذا طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه ومال آخر منهم لصهره مع هن وهن إلى أن قام [الثالث من القوم] نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعطفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبت الربيع، إلى أن انتكث [عليه] فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به مطيته فما راعني إلا والناس [يهرعون] إليَّ كعرف الضبع، ينثالون عليَّ من كل جانب،[حتى] لقد وطىء الحسنان، وشقَّ عطفاي، مجتمعين عليَّ كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وفسق آخرون، كأنهم لم يسمعوا[كلام] الله إذ يقول:{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص:83] بلى، والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حصول الحاضر، وقيام الحجة لوجود الناصر، وما أخذ الله علي العلماء أن لا يقروا على كظة ظالم ولا(1/191)


سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز قلت: وهذا الذي أشار إليه السيد صارم الدين بقوله: ولم تزن عنده الدنيا وزينتها البيت قالوا: وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه هذا الموضع من خطبته فناوله كتاباً وأقبل ينظر فيه، فلما فرغ من قراءته، قال له ابن عباس: لو اطردت مقالتك من حيث اقتضبت، فقال: هيهات!! -يا ابن عباس- تلك شقشقة هدرت، ثم قرت.(1/192)


[تجرم أمير المؤمنين(ع) على من تقدمه]
قال السيد صارم الدين :
وما رأى صرمهم رأياً لأن لهم.... سوابقاً وهو بالصبر الجميل حري
أغضى وجامل فاخترنا مجاملة.... وسامح القوم في أمرٍ أتوه فري
وقد تجرم منهم في الذي فعلوا.... وما تعدى إلى سب ولا هذرِ
قال ابن أبي الحديد: واعلم أنها قد تواترت الأخبار عن علي -عليه السلام- بالتجرم الكبير على المشائخ، نحو قوله: وقال قائل[منهم] : إنك يا ابن أبي طالب على هذا الأمر لحريص. فقلت: أنتم والله أحرص مني وأبعد، وأنا أخصُّ وأقرب، وإنما طلبت حقاً لي، وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه، فلما قرعته بالحجة عن ملأ من الحاضرين بهت لا يدري ما يجيبني[به] اللهم، إني أستعديك على قريش، فإنهم قطعوا رحمي، وصغَّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي فيما هو لي، ثم قالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه.
ومن تجرماته قوله: ما زلت مظلوماً صغيراً وكبيراً، فقيل له: قد علمنا ظلمك في كبرك، فما ظلمك في صغرك؟ فقال: إن أخي عقيلاً كان في عينيه وجع، فإذا أرادت الأم أن تذر في عينيه امتنع عليها، وقال: ابدأوا بعلي أولاً، فكانت تذر في عيني من غير وجع بهما.
ومن تجرماته: اللهم اجز قريشاً فإنها منعتني حقي، وغصبتني إرثي.
ومن ذلك قوله: فجزت قريشاً عني الجوازي، فإنهم ظلموني حقي، واغتصبوني سلطان ابن أمي.
وقوله، وقد سمع صارخاً ينادي: أنا مظلوم، فقال: هلم، فلنصرخ معاً، فإنى ما زلت مظلوماً.(1/193)


ومن ذلك قوله: وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، وقوله: أرى تراثي نهباً، وقوله: إنهما أصغيا إناءنا وحملا الناس على رقابنا، وقوله: إن لنا حقاً إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى، وقوله: ما زلت مظلوماً مستأثراً عليَّ مدفوعاً عما استحقه.
قال ابن أبي الحديد: وأصحابنا -يعني المعتزلة- يحملون هذا كله على ادعائه الأمر بالأفضلية [والأحقية].
قال: وهو الحق والصواب، فإن حمله على استحقاقه الخلافة يؤدي إلى تكفير المشائخ أو تفسيقهم.
قال: ولكن الإمامية، وبعض الزيدية حملوا هذه الأقوال على ظواهرها وارتكبوا بها مركباً صعباً.
قال: ولعمري إنها موهمة مغلِّبة على الظن بصحة ما يقوله القوم، لكن تصَّفح الأحوال يبطل ذلك الظن، ويدرأ ذلك الوهم فوجب أن يجرى مجرى الآيات المتشابهة الموهمة ما لا يجوز على الباري، فإنَّا لا نعمل بظواهرها لما تصفحنا أدلة العقل.(1/194)


وروى ابن أبي الحديد [رواية معناها] : إن رجلاً من أهل السنة شاهد يوم الغدير، وما يجري عند قبر أمير المؤمنين من الأقوال الشنيعة، وسبَّ الصحابة بأصوات مرتفعة، فقال شيخ الحنابلة ببغداد لهذا الحاكي: والله ما جرأهم على ذلك وفتح لهم هذا الباب إلا صاحب هذا القبر[يعني] علي بن أبي طالب، فقال: يا سيدي، هو الذي سنَّ لهم ذلك، وعلمهم إياه وطرقَّهم إليه، فقال: نعم، والله، فقال: يا سيدي، فإن كان محقاً فما لنا نتولى فلاناً وفلاناً، وإن كان مبطلاً فما لنا نتولاه، فينبغي أن نتبرأ منه أو منهما، فقام العالم مسرعاً ولبس نعليه، وقال: لعن الله إسماعيل، وهو اسم لهذا العالم الحنبلي إن كان يعرف جواب هذه المسألة، ثم دخل داره.
قال ابن أبي الحديد: فقمنا نحن أيضاً وانصرفنا انتهى.
فهو كما ترى مصرحاً بالتجرمات.(1/195)

39 / 205
ع
En
A+
A-